من النادر أن ينجح سياسي أو يلقى قبولا شعبياً في غير مسقط رأسه. لطالما كان ذلك محصوراً بزعماء الأحزاب الطائفية دون غيرهم. فغالباً ما يتلطّى الحزبيّ خلف حزبه في المناطق ليكسب أصواتاً مجيّرة للحزب لا لشخصه، ويتّكل على التحريض الطائفي والسياسي ليجذب القاعدة الشعبية. وحده مسعود الأشقر، المنحدر من بلدة ديك المحدي في المتن الشمالي، نجح في «اختراق» الأشرفية، مع ترحيب عارم من أبنائها، بعيداً من أدوات الأحزاب البالية. ليس الأمر صدفة أو مجرّد حظ جيّد. فـ«بوسي»، خلافاً لغيره، انخرط في المجتمع البيروتي وأصبح واحداً منه لا طارئاً عليه. هكذا، تمكّن في انتخابات 2018 من منافسة نديم بشير الجميل، ليخسر بفارق لا يتعدى 300 صوت. إنجاز يصعب على غير مسعود الأشقر تحقيقه في الأشرفية، نظراً إلى خصوصيتها، وإلى ما يعنيه أن يكون «ابن بشير» مرشحاً عنها، ولأنه تمكّن من ذلك من دون ماكينة حزبية تدرّ الأصوات له ولا إمكانات مادية هائلة تجعله رقماً صعباً. لم يكن له سوى تلك الجولة شبه اليومية، سيراً على الأقدام، في شوارع الأشرفية، فيما لا يراها خصومه إلا من خلف زجاج سياراتهم «المفيّمة». اختار «بوسي» أن يسكن في الأشرفية ويتعرّف على ناسها وأزقتها؛ على كرم الزيتون وساسين والسيوفي، فيما سقط غيره بمظلة المال والأجندات الحزبية والأعمال.
لمسعود وجه آخر، تتذكره الأشرفية جيّداً. فهو رفيق بشير الجميل وشغل مناصب عديدة، أهمها تأسيسه وقيادته وحدات دفاع بيروت في الكتائب ثم في القوات اللبنانية، والمسؤول العسكري عن منطقة بيروت، ورئيس الشعبة الثالثة للعمليات والتدريب والدراسات، وأيضاً التنسيق بين القوات والجيش والسلطات الرسمية. لذلك، ارتبط عاطفياً بالأشرفية التي لازمها خلال حرب المئة يوم من منطلق مسؤوليته العسكرية. غير أنه لم يبق أسيراً للحرب. ثمة من مناصريه من تعرّف عليه بعدها بكثير. فهو شكّل حالة فريدة فشل في تحقيقها غالبية مقاتلي تلك الحقبة. صمّم على خوض غمار السياسة بعد ابتعاده عن حزب القوات «عندما تحوّلت معركته الى داخلية، وعصفت به الانقلابات التي ما لبثت أن تحولت حروباً مدمرة»، كما كان يردّد. وفي عمله السياسي تمايز عن صورة المقاتل الحربي، ليتحوّل الى ماكينة تنافس ماكينة الأحزاب، ولكن من دون قدراتها. ساند الأهالي اجتماعياً، وشكل بمفرده خلية لا تهدأ، للتوسط لتلميذ من هنا ولمريض من هناك، ومن دون أي منصب وزاري أو نيابي. خاض «بوسي» ثلاث تجارب نيابية سيئة. الأولى في العام 2000 عبر ترشحه منفرداً في بيروت معانداً كل السلطة السياسية الحاكمة يومها، فكان الفشل أكيداً رغم تصويت 85% من المسيحيين لصالحه. الثانية عام 2009، حين ترشّح على لائحة التيار الوطني الحر بموجب القانون الأكثري، وسرعان ما تمكنّ من قلب تلك النتائج عام 2018 بترشحه على لائحة التيار مرة أخرى، ولكن هذه المرة بفعل أصواته التفضيلية التي كادت تسقط نديم بشير الجميل. كل ذلك بجهد شخصي ومراكمة لعمل سنوات، فالتيار كان له مرشح حزبي صبّ له كل أصواته. حصل ذلك في لحظة نشوب معارك طاحنة بين أحزاب القوات والتيار والكتائب للسيطرة على قرار دائرة بيروت الأولى. ليس تفصيلاً أن ينعاه أبناء المنطقة أمس بالقول: «قلب الأشرفية توقّف».