أمّنت غيدا الدايخ على ابنها (11 شهراً) في حضانة في بشامون وتوجّهت إلى عملها. وعندما عادت لأخذ «الأمانة»، وجدته في حالة يرثى لها. وجهه مشوّه، تغطيه الكدمات بعد تعرضه للضرب المبرح على يدي طفل آخر. أقفلت وزارة الصحة الحضانة بسبب إهمالها وترك الأطفال بلا رقابة. لكن، «من يمسح هذه الذكرى البشعة من رأسي ورأس ابني ووالده؟ وكيف سأتابع مسيرتي المهنية وأنا مطمئنة على طفلي؟»، تسأل غيدا التي تعيش بعقدة ذنب لاضطرارها إلى العمل. حالها كحال سائر السيدات اللبنانيات اللواتي يحصلن على عشرة أسابيع إجازة مدفوعة عند الولادة، قبل أن يُسلخن عن مواليدهن وينزلن إلى مكان العمل. المعايير الدولية لا تجيز أن تقلّ إجازة الأمومة عن 12 و14 أسبوعاً، لكنّ الاعتبارات الاقتصادية في لبنان هي الحاكمة
تجد كثير من السيدات العاملات في لبنان أن إجازة الأمومة المتمثلة بالـ70 يوماً غير كافية لهنّ وللمولود. برأيهن، تحتاج الأم إلى فترة أطول للاستراحة وفهم التغيير الذي أصابها، ويحتاج الطفل خلال الستة أشهر الأولى بالحد الأدنى إلى اهتمام خاص وتنظيم ساعات النوم والأكل. وهذا يضغط على المرأة ويكاد يجبرها على الاختيار بين حقها في الأمومة والعمل لولا أن ترف الاختيار سحقته الظروف الاقتصادية الصعبة التي تجبر الزوجين على العمل لتأمين الاحتياجات الأساسية.
الأيام الأولى من العمل ما بعد الولادة كانت «قاهرة»، على حدّ تعبير إسراء. تركت ابنها في عهدة والدتها ووالدة زوجها وظلت الأسئلة تنخر رأسها: «ماذا يفعل؟ هل يبكي من دوني؟ هل يحتاج إليّ؟». بكت، وأحسّت بالذنب لأنه «ما دمت غير متفرّغة له لمَ أنجبته؟» ظل هاجس التقصير بحقه يلاحقها حتى صارت فكرة ترك العمل تنخر رأسها، تقمعها فكرة ثانية وهي حاجتها إلى العمل لتؤمّن لطفلها حياة كريمة، و«هذا شكّل ضغطاً نفسياً كبيراً عليّ، خفّفه دعم زوجي والأهل، وإيماني أن العائلتين ستهتمان جيداً بصغيري».
أما أنجي فتجزم أنه «لولا التسهيلات التي تلقيتها لتركت العمل حتماً، وبحثت عن عمل عن بعد أنجزه بجوار طفلي». قلّصت دوامها مفضّلة حسم نحو 100 دولار من راتبها على ترك ابنها وقتاً طويلاً. وأخذت إجازة غير مدفوعة لشهر إضافي على إجازة الأمومة بحسب ما يسمح النظام الداخلي للمؤسسة «ساعدتها في تنظيم نومه بعدما اعتاد على النوم على يديّ، وفي سحب الحليب وجمعه في الثلاجة، وهذا كان مستحيلاً خلال الشهرين الأولين لأنه كان يطلب كثيراً من الرضاعة». ومع ذلك، ترى أن «الفترة الأنسب لإجازة الأمومة هي ستة أشهر».
لصالح الأم أيضاً
مناشدة السيدات لتمديد إجازة الأمومة ليست مرتبطة فقط بحاجة الطفل إلى اهتمام خاص وبقائه بجوار عائلته، بل لحاجة الأم أيضاً، في مرحلة ما بعد الولادة، إلى إجازة للاهتمام بنفسها والراحة واستيعاب التغيير الذي طرأ على حياتها وتحسين علاقتها بمولودها.
ad
مضت ثلاثة أشهر ونيّف على ولادة نادين لطفلها ولا تزال تشعر أنها «مكركبة». لم تكن العملية ميسّرة ولا حتى الفترة التي أعقبتها. «أخذت وقتاً طويلاً لأستوعب هذا الانقلاب في حياتي، لم أتقبّل شكل جسمي الجديد أو دخول طفل صغير إلى حياتي»، تقول، وتحمد ربها أنها لم تصل إلى مرحلة اكتئاب ما بعد الولادة وإنما اقتصر الأمر على حالة من الصدمة «أبكي على أيّ شيء، أكره نفسي وكذلك الرضاعة». وما إن تجاوزت هذه الحالة، وجدت نفسها مجبرة على الالتحاق بالعمل مجدداً.
الاعتبارات الاقتصادية
يعود تمديد إجازة الأمومة من سبعة إلى عشرة أسابيع، مع حماية حقها في الحصول على الأجر كاملاً، والعودة إلى العمل بعد الإجازة، إلى عام 2014 عندما أقرّ مجلس النواب تعديل المادتين 28 و29 من قانون العمل والمادة 38 من نظام الموظفين. خلال مناقشة هذا القانون، «أثيرت مسألة تمديدها إلى 12 أو 14 أسبوعاً وفق ما هو معمول به دولياً، إلا أن الردّ جاء سريعاً: «بدكن تنتبهوا هناك اعتبارات اقتصادية، بكرا ببطل حدا يوظف امرأة!»، كما ينقل تقرير للمفكرة القانونية بعنوان: «تمديد إجازة الأمومة في لبنان ضمن سقف «الاعتبارات الاقتصادية». والجدير بالذكر أن اتفاقية منظمة العمل الدولية بشأن حماية الأمومة الرقم 103 لعام 1952 تنصّ في المادة الثالثة على أنه «لا يجوز أن تقلّ مدة إجازة الأمومة عن 12 أسبوعاً»، وجرت مراجعتها خلال اتفاقية حماية الأمومة الرقم 183 التي صدرت عام 2000 ونصّت في المادة الرابعة على «ألا تقلّ إجازة الأمومة عن 14 أسبوعاً».
ad
اقتراح تعديل القانون
في العام الماضي، قدّم المعهد العربي للمرأة في الجامعة اللبنانية الأميركية مع الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية اقتراح قانون يرمي إلى تعديل الإجازة العائلية في إطار مشروع «العدالة للجميع: الإصلاح الجندري من القاعدة إلى رأس الهرم». وجاء فيه إعطاء إجازة أمومة مدّتها 15 أسبوعاً و10 أيام للأب، يأخذها ضمن مهلة الثلاثة أشهر من تاريخ الولادة. وذلك امتثالاً لما نصّت عليه اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة «سيداو» التي أقرّتها الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتمادها ميثاقاً دولياً لحقوق المرأة عام 1979، وتمّ البدء بتنفيذها عام 1981. بحسب عضو المكتب التنفيذي في الهيئة مايا الزغريني، «حصل المقترح آنذاك على موافقة 10 نواب، وسنطلب تجديده بعدما تغيّر المجلس النيابي ليحال إلى اللجان المشتركة». تطمح الزغريني أن «تصل إجازة الأمومة والأبوة إلى السنة، يتناوب عليها الوالدان تماماً كما يحصل في كندا» لكنها تستدرك «الوضع الاقتصادي في لبنان صعب جداً، فأيّ مؤسسة تتحمّل اليوم إجازة موظف لسنة كاملة مدفوعة الأجر؟»
«الوضع الاقتصادي لا يسمح»
عدا ذلك، لم يجرِ اقتراح تعديل قانون العمل بغية تمديد الإجازة العائلية. تقول رئيسة اللجنة النيابية للمرأة والطفل عناية عز الدين لـ«الأخبار» إن السبب يعود إلى «الظروف غير العادية التي تمرّ بها البلاد والتي تعيد ترتيب الأولويات عند التشريع، خاصة عندما ترتبط المقترحات بأفكار غير معتادين عليها مثل قضايا المرأة، وعندما تترتب على هذه المقترحات أعباء اقتصادية أيضاً». لكنها لا تنفي «ضرورة تمديد إجازة الأمومة» التي تراها «غير كافية ولا تُطبّق أصلاً في كثير من المؤسسات»، لافتة إلى أن «بعض أرباب العمل يسدّدون رواتب المرأة كاملة خلال إجازة الأمومة إلا أنهم يقضمونها عند إدخالها إلى صندوق التعويضات».
أمل في أن يلحظ مشروع تعديل قانون العمل تحسين الإجازة العائلية
تستبشر عزّ الدين والجمعيات الحقوقية، ولا سيما التي تُعنى بشؤون المرأة، أن يلحظ مشروع التعديل الكامل لقانون العمل، الذي أعدّته لجنة تقنية بتكليف من مجلس الوزراء، تحسين الإجازة العائلية. لكنّ مصادر مطلعة على إعداد الدراسة أكدت لـ«الأخبار» أن «مشروع تعديل القانون بات جاهزاً، والظروف العامة في البلاد تؤخر التشريع»، مشيرة إلى أنه «لم يأتِ على ذكر تمديد إجازة الأمومة لأنه لم يتم التوافق عليها واقترح تحديد إجازة أبوّة ثلاثة أيام مدفوعة الأجر».
إجازة الأبوّة ضحية منظومة ثقافية
إذا كانت الاعتبارات الاقتصادية تقف في وجه تحسين إجازة الأمومة، وتجعل الزواج والإنجاب عائقين في وجه مشاركة المرأة في سوق العمل، فإن إجازة الأبوة تقع ضحية منظومة ثقافية ذكورية تربط الدور الرعائي بالمرأة فقط، وتعفي الرجال من تحمّل مسؤوليتهم في التربية.
«عندما عُرضت إجازة الأبوة للمرة الأولى في مجلس النواب تعامل البعض مع الفكرة كما لو أنها نكتة، فيما سخر البعض الآخر من إجازة تُعطى للأب عندما تلد المرأة!»، بحسب عضو المكتب التنفيذي في الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية مايا الزغريني، التي تشدّد على أهميتها، «لأنها تزيد اللحمة في الأسرة». ومع أن مدة العشرة أيام التي اقترحتها الهيئة «غير كافية لتحقيق هذا الهدف، إلا أننا نصعد السلم درجة درجة».