ملحم رياشي حالة خاصة في السياسة. حين كان يخوض رقصة «التانغو» الحوارية مع ابراهيم كنعان، كان لتوصيفاته وقعها المتمايز، كأن يصف الحوار بين «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية» بـ»كافيار البيلوغا». والأخير من أجود أنواع الكافيار ومهدّد بالانقراض. إذ يهوى ابن الخنشارة الأمثال واللعب على الكلام، حتى بات رئيس الجمهورية ميشال عون يناديه بـ»اسكندر رياشي»، أحد الصحافيين القدامى «التائهين»، كما يصفه ملحم.
حين سمّي وزيراً، لم يكن نموذجاً تقليدياً. أدار ظهره للعجقة الحكومية، ودعا أصدقاءه بأبسط الطرق وأسهلها (الواتس اب) لحضور حفل توقيع كتابيه «يهوذا الاسخريوطي» و»العتب»، وكأنه يدعوهم إلى ارتشاف فنجان قهوة يمكن خلاله التحدث في أي موضوع إلا اليوميات السياسية. حينها، كان باستطاعته تأجيل أي موعد رسمي مهم، لأنّه ملتزم بواجبه كأستاذ جامعي يعطي مادة الاستراتيجيا ووكالات الأنباء. يترك السياسة و»وجع راسها» ليدخل صفّه «ديكتاتوراً»، كما يبلغ تلاميذه مع بداية كلّ عام. يقولها أمامهم «زي ما هي»: الديموقراطية تنتهي صلاحيتها عند حدود مكتبي. لا مزح في الدرس والواجبات.
وحين أدرج على لائحة المرشحين عن المقعد الكاثوليكي في دائرة المتن الشمالي، صبغ المعركة الأكثر تسييساً، مقارنة ببقية المعارك الانتخابية، ببعض بصماته الخاصة. كأن يخوض حملته تحت عنوان «مرشّح الحياد البطريركي» أو أن يعطي معركته بعداً فلسفياً – وجدانياً، أو أن يستغلّ «يوم الصمت» لكي يلاقي «رفاقاً قواتيين» إلى أحد المطاعم في سن الفيل لتناول سندويش شاورما أمام المارّين.
كان يفترض أن يعطي ترشيح ملحم أسباباً تخفيفية لخصومه، وتحديداً للعونيين للتخلّص من بعض أثقال الحرب المتنية نظراً للدور الذي لعبه في المصالحة المسيحية – المسيحية، لكنّه تحوّل إلى هدف «للتيار الوطني الحرّ» حين قرّر رئيس الجمهورية أن يصبّ كلّ اهتمامه لضمان تجديد نيابة ادي معلوف، ما زاد من حماوة المعركة على نحو غير متوقع. فصار «رأس» ملحم «بالدق» خصوصاً أنّ الرئيس ميشال عون سعى إلى تجييش كلّ الحلفاء المتوفرين في الدائرة، لصبّ أصواتهم لمصلحة معلوف، من قوميين وأصوات شيعة يمكن لـ»حزب الله» أن يمون عليهم، ذلك لأنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري فضّل تجيير أصوات مؤيّديه لمصلحة ميشال المرّ الذي سعى والده، الياس المرّ، إلى تركيب خلطة غريبة من الأصوات لضمان فوز نجله حين باتت «زعامة» آل المرّ، الخدماتية، على المحك… وبعد تعرّض ميشال المر لسيل من الانتقادات بعد كل إطلالة إعلامية.
لهذه الدورة في المتن، نكهتها الخاصة. للمرّة الأولى، يشعر حزب الطاشناق أنّ مقعده غير محسوم، وهو الذي كان يُشهد له بـ»حديدية» ماكينته الانتخابية، لكن هجرة العديد من أبناء الجالية الأرمنية صعّبت معركته، وراح الحزب يبحث بالسراج والفتيلة عن أصوات قد ترفع رصيد هاغوب بقرادونيان ليحلّ أوّل في اللائحة التي من غير المرجّح أن تصيب حاصلين اثنين.
أيضاً للمرّة الأولى، سيكون بمقدور وجه جديد أن يحدث بعض الفرق. جاد غصن يشكّل حالة مميزة في المتن. التقديرات الأولية تشير إلى احتمال أن يسجّل رقماً لافتاً في عدد الأصوات التفضيلية، مع العلم أنّه لو توحّدت قوى المعارضة أو «الثورة» في لائحة واحدة لكان بإمكانها أن تتخطى عتبة «الحاصل وشوي»، بدليل أنّ أرقام غير المقيمين تجاوزت التسعة آلاف مقترع بينهم أكثر من ستة آلاف بين أميركا الشمالية وأوروبا، وهو رقم من شأنه أن يؤثر على نحو كبير على ميزان المعركة المتنية لا سيما إذا صحّت التوقعات التي تقول إنّ شريحة كبيرة من هذه الأصوات «اعتراضية النَفس».
في المقابل، يتخطّى طموح سامي الجميّل عتبة الحاصلين اللذين حقّقهما في الاستحقاق الماضي. يُنقل عنه أنّه قادر على فرض نتائج غير متوقّعة. ولعلّ هذه التقديرات هي التي تصبّ الزيت على نار السجال القواتي – الكتائبي، المتنقل بين دوائر التماس، كونهما يقضمان من الطبق ذاته ما يجعل منهما خصمين شرسين عشية فتح صناديق الاقتراع… فيما الحزبان ينافسان اللوائح الاعتراضية على جذب الأصوات الرافضة للمنظومة القائمة والدفع باتجاه رفع نسبة الاقتراع.
بالنتيجة، تشهد الدائرة جملة تناقضات متوارثة في معركتها، منها مثلاً بين الخيار «التقليدي» الذي يمثّله آل المرّ، والخيارات الاعتراضية خصوصاً أنّ سامي الجميّل حاول رفع يافطة «الثورة» بعد انفراط عقد بقية القوى المعارضة، إلى أن أثبت جاد غصن حضوره لا سيما لدى الفئات الشابة لينافس الكتائب على هذه الشرائح. في المقابل، يحاول «التيار الوطني الحرّ» أن يظهر حجمه الحقيقيّ من خلال خوضه المعركة منفرداً بمعزل عن النتائج التي سيحققها، فيما سيكون لنسبة مشاركة المتنيين تأثير كبير على النتائج.