Site icon IMLebanon

ماتيو مجدي علاوي إنتحر بقدمين على مستوى الأرض!

 

كان غاضباً من “الدولة” وسعيداً بالعطاء

 

 

هو ملفٌ آخر حزين. عنوانه: “إنتحار”. مضمونه: “الشاب ماتيو علاوي انتحر”. تفاصيله: “ماتيو هو إبن الأب مجدي علاوي ربان سفينة “سعادة السماء”. فهل يجوز أن ينتحر شاب اعتاد منذ ولد وكبر بين شلحات الزيتون، في كنف أب يناديه كل من يراه من الشباب الذين يواجهون صعاباً: “يا بيي”؟ قطبٌ كثيرة مخفية أسهل ما فيها أن نردد مع المردّدين: ماتيو انتحر ونقلب الصفحة في انتظار ملف آخر. لكن، لن نفعل، وسنسأل مجدداً: كيف مات ماتيو؟

 

هو الشاب الأكبر في بيت الأب مجدي علاوي الصغير. أتى بعده ثلاثة: أختان وأخ: “كريا”، “ماريا” و”كريس”. وعاش الأربعة حياة ملؤها صخب الحب والعطاء بلا حدود ونجدة الضالين والتسلح بالله في قهر القهر. فكيف لشابٍ، رفيق أبيه، أن يتخلى عن كل هذه الميزات ويعلق رقبته بحبل ويشد حتى الموت؟

 

نعم، كان ماتيو غاضباً، حزيناً وقلقاً، حاله حال معظم اللبنانيين من شباب وأكبر وأكبر، وهو ما ترجمه في “بوست فيسبوكي” راج عبر “السوشيل ميديا” ليؤكد أن الشاب يئس وانتحر. هو كتب قبل أيام من موته (في الرابع عشر من حزيران بالتحديد): “أنا شخصياً عايش حالة يأس، كآبة، حزن، قرف، إستسلام… ولست قادراً على رؤية مستقبل ولا أيام حلوة لبعيد… فكيف قادرين نعيش هيك؟ كيف قبلانين؟”. صحيح ان في كتابته غضباً ويأساً كبيرين، لكن لو دارت بقايا “الدولة” بعيونها دورة كاملة على صفحات الشباب والشابات لوجدت ان الكثيرين والكثيرات مثلهم مثل ماتيو “قرفوا” منها وتعبوا من كل الساسة، وما عادوا يجدون في “سويسرا الشرق” سوى كومة قهر وذلّ يومي. لكن هل هذا معناه أن ينتحروا؟ الإنتحار يحتاج الى قرار وحالة وأدوات. فهل هي متوافرة في حالة موت ماتيو؟ وهل التسرع في إدعاء إنتحاره يخدم أحداً ويطوي صفحة ويجعل جانياً ما يضحك في سرّه؟ عائلة ماتيو رفضت فرضية إنتحاره فهل تملك معطيات لا يعرفها من جارى الإدعاء بانتحاره؟

 

ماتيو (25 عاماً) لا يكلّ ولا يملّ من فعل الخير. هو يأتي الى منزله، يسأل نونو (والدته نجلاء) عن “طبخة اليوم”. يتناول الطعام المطهو بحب. يبدل ثيابه وينتقل الى المعيصرة. يهتم بالشبان المدمنين. ثم يغادر الى بيوت العجزة ثم بيوت الأيتام ثم أفران المحبة. وبين بين يفتح صفحاته على “السوشيل ميديا” و”يلعن” حال هكذا دولة التي تقهر ناسها وشبابها والمسنين فيها. دولة تنازلت عن كل واجباتها وتآمرت على كل من فيها. ثم يغلق صفحاته ويعود لـ”ينغل” إجتماعياً. فماذا حدث معه ليُصبح الكلام عنه في صيغة كان؟ وعن واقع أنه انتحر؟

 

إبن خالته “موريل الخوري” رثاه: “يا بطل يا مقدام ما بتخاف من مين ما كان حقك ما بيضيع ولا بينتسى وما رح نام حتى الحقيقة تظهر ويبيّن البيان”. فهل ثمة حقيقة هناك من يراهن على طيّها؟ وماذا عن التفاصيل التي أحاطت موته؟

 

تفاصيل الساعات الأخيرة

 

“موريل” رآه مربوطاً بشريط حديدي هو شريط “سخان الماء” الموضوع على تتخيتة البيت. فلنستمع الى كل التفاصيل؟

 

لم يختفِ ماتيو منذ يوم السبت كما قيل وتردد، لكن يوم السبت كان آخر يوم أتى فيه الى البيت. تناول الغداء. أخذ ثياباً نظيفة وغادر، كما دائماً، الى بيت صربا – كسروان، الذي هو بمثابة مركز قريب من المعيصرة، حيث “قرية الإنسان”. مرّ يوم، يومان، وبدأ “الفار” يلعب في قلب الأب، الأب علاوي، ذهب الى منزل صربا ولم يكن معه مفتاح. دقّ الجرس فلم يفتح له احد. نظر الى الشرفة فرأى أنوار المنزل مطفأة. استبعد وجود إبنه البكر قتيلاً في الداخل. وفي اليوم التالي، أي عند الساعة الثالثة والنصف من بعد ظهر يوم الثلثاء، تقدم ببلاغ في مخفر أنطلياس، لدى قوى الأمن الداخلي، عن إختفاء إبنه. وفي هذا الوقت، كانت كل العائلة تبحث عن ماتيو. وعادة، إذا آلم ماتيو ظفره تعرف كل العائلة. شقيقه كريس وشقيقته كريا قصدا مجدداً بيت صربا.

 

طرقا على الباب كثيراً ولم يفتح لهما. وقبل أن يغادرا شمّ كريس رائحة كريهة تنبعث من قلب البيت الذي يقع في الطبقة العلوية. صعد الى السطح. قفز على القرميد. ونزل الى الشرفة. نظر من الخارج فرأى شقيقه متدلياً. خلع الباب وكان وقع المشهد لا يوصف. ماتيو ميت. حاول، وهو يبكي منهاراً، نزع الشريط من حول رقبته. كان محكماً جداً. إنهار اكثر واتصل بوالديه فأتيا على وجه السرعة مع الخالتين وهرول وراءهم كل أفراد العائلة. والدته نجلا رأته وما عادت قادرة على النطق. ووالده راح يبكي مثل الطفل فماتيو هو فلذة الكبد والقلب واليد اليمنى والمستقبل. ابن خالته رآه. كان يحوط رقبته شريط “سخان الماء” المعدني، كان متدلياً من التتخيتة التي ترتفع عن الأرض نحو 220 سنتم، والشريط طوله 170 سنتم، وطول ماتيو نحو 170سنتم. وهو نحيف جداً، بعد عملية أجراها في معدته حيث كان يعاني من السمنة، ولا يملك القوة ليصعد الى التتخيتة وحيداً بدون سلّم في المكان ولا حتى من كرسي قريب. والملفت الذي لم يتكلم عنه أحد هو أن الكاحلين كانا يرتفعان عن الأرض بضعة سنتمترات. ولو كانت فرضية الإنتحار حقيقية لكان مدّ قدميه قليلاً ووقف مجدداً. فلا يمكن أن ينتحر إنسان وقدماه تكادان تلامسان الأرض.

 

القوى الأمنية حضرت. كتبت تقريرها وفيه فرضية الإنتحار (ولم تأخذ البصمات). صوّرت الجثة وغادرت. أما جثة ماتيو فنُقلت الى مستشفى “لامارتين” في جبيل. والأهل طالبوا بتشريحها لشكوكهم بوجود عملية خنق قبل تعليق الجثة بالسلك المعدني. أما الدفن فسيتمّ اليوم أو غداً في كنيسة مارالياس في أنطلياس لتعود الجثة وتدفن في مدافن العائلة في كسروان.

 

من قد يقتل الشاب ماتيو علاوي؟ ولماذا؟

 

يتناقل عارفو الشاب ما حدث معه قبل أسبوع من وفاته. كان ينزل صباح كل يوم الى سيارته ليجد الدواليب الأربعة على الأرض. وكان يتلقى رسائل بالقتل. معروفة المصدر. من؟ ما هي مصادرها؟ يُفضل هؤلاء عدم الغوص في الأسماء و”الدولة” تعرف او يفترض أن تعرف. لا إنتماء سياسياً لماتيو لكنه مع الحقّ، مع ما يراه حقاً، ومن يرجع الى الوراء، وإلى صفحاته على “السوشيل ميديا”، ثم يعود ويتقدم يلاحظ أنه ما عاد، في كل مرة يرمي فيها سخطه على الدولة ومن فيها، يسمي أشخاصاً. فهو خضع للتهديد. واستبدل الأسماء المباشرة بالكتابة العامة على نسق “كلن يعني كلن”. وطالما كان يردد أمام عارفيه أن الجميع تخلوا عن الدولة.

 

لكن، لماذا يُهدد هو بالذات مع العلم أن كثيرين سواه يكتبون ويصرخون ويغضبون على “السوشيل ميديا”؟ الجواب من عارفيه “لأنه مؤثر أكثر من سواه. وكثيرون يتعاطفون معه. والبلاد مفتوحة أمام المجرمين. ووالده، الأب علاوي، أيضاً مهدد.

 

الطبيب الشرعي الذي كشف على الجثة دوّن ان ماتيو توفي عند الساعة الثالثة من نهار الأحد. وهذا برأيي عارفي ماتيو خطأ. فهو تحدث السبت، عند الثامنة مساء، مع قريبته. وتحدث عند العاشرة مع شقيقته وقال لها: “تقبريني” أراك لاحقاً فلديّ عمل في الغد في مركز الأطفال في جونيه. واتصل الأحد بشخص يعمل في الجمعية. أمرٌ آخر يلفت عارفيه وهو توقف “الواتساب” في هاتفه قبل أيام من وفاته”.

 

كلامٌ كثير يروى يعود من يتناقلوه الى القول: الغالي راح. خلص الكلام. ماتيو لن يعود بيننا. زحط؟ قتل؟ تشردق؟ راح. لكن لن نقبل أن يُقال، ببساطة شديدة، أنه انتحر. ماريو من الشباب الذين يرون الإنتحار جريمة فكيف يقترف جريمة كهذه؟

 

 

من رأوا ماتيو علاوي معلقاً بالشريط المعدني يتحدثون عن عينيه اللتين كانتا تلمعان. وكانت قدماه ويداه متشنجة. رقبته لم تطق. هو اختنق. وكان يرتدي الشورت وتي شيرت وجوارب. وهو استقبل قبل يومين سنكرياً لإصلاح حنفية في المنزل. فكيف يمكن لإنسانٍ يفكر بالإنتحار تصليح البيت؟ ماذا عن ذاك السنكري؟ هل يعرفه أحد؟ هل ربطوا بينه وبين الشريط المعدني؟ المعلومات كلها أصبحت في جعبة المحققين.

 

أخطر ما حدث في قضية ماتيو علاوي إندفاعة الكثيرين الى تبني فرضية إنتحاره ومحاولة إثباتها من خلال “بوست” فيسبوكي. هو سبق وكتب “بوستاً” آخر كتب فيه في السابع من حزيران: “بعد سنتين من التعب والتوقف عن الدراسة بسبب كورونا نجحنا في DU en addictologie وهي نقطة مياه جديدة… يمكن بتعب، بضعف، بغضب، لكني أعود و”أكوّع” وأرجع وأشق طريقي الخاص، لأن الإستسلام ليس وارداً عندي… بحب الحياة على الرغم من قساوتها وسأبقى أحبها ومتعلقاً فيها وسأتابع من نجاح الى نجاح، من خبرة الى خبرة، من عمل الى عمل، ومن قمة الى قمة”. وكان مقرراً أن يسافر ماتيو الى فرنسا قريباً ليشق طريقاً جديدة.

 

ماتيو مجدي علاوي شاب آخر “فلّ” من لبنان الى الأبد. رحل مليئاً بالغضب من الدولة لكن فيه، في قرارته، كان هناك أمل بيوم ما “أحلى”. هو ملف آخر يعرف “القاصي والجاني” أنه سيعود ويقفل. وتبقى “الدولة” تعيث خراباً في بلد مهدد بالكامل.