موريس عواد كما عرفته كأنه آتٍ دائماً من اللامكان إلى المكان، من التاريخ إلى اللاتاريخ، من المجتمع إلى الحرية. دائماً على هامش ما هو سائد من عادات وتقاليد، دائماً المتمرد على الإرث من دون أن ينفيه. يسائل اللغة من باب المحكي (لا الفصحى)، اختار طريقة تعبر عن الشعر والمسرح والقصة والخواطر.
تأثر بميشال طراد «أنا طلعت وكما غيري من عباءة طراد»، لكنه افترق عنه، جاور سعيد عقل لكنه خرج عليه. دائماً بين الداخل والخارج، بين المعطى والتحويل. بل كأنه عندما تراه يتكلم ويبوح تحسّه صوتاً في برّية أو برّية في صوت. لغة بأسلوب تنكر أسلوبها كل يوم.
ولهذا، ورغم خصب أسلوبه الخاص، أبقاه مفتوحاً على تجارب الحياة، والواقع، والمجتمع والتاريخ. 70 عاماً من الشعر ولم تفقد أسبابه، ولا أصواته، ولا أنواعه. لكن المهم في محكيته، أنه تجاوز «الشفوية»، (بمعناها المباشر)، والعفوية بتراكماتها البدائية، ليجمع في عاميّته بين خلفيات المباشرة في أعماق الكتابة، إلى ما هو متأمل في اللغة والحياة، أي إلى خلفيات النص ودلالاته.
صحيح أنه كتب أغاني، لكن الصحيح أنه كتب قصائد فيها من الشغل والجهد والفنية ما يبعدها عن فنون الأغنية والطرب.
وإذا كان قد ورث من ميشال طراد جمالياته وتشاكيله، فإنه جعلها مخزناً لمضامين وتعابير عميقة، أبعد من مجرد الشكلانية التي عرف بها طراد وسعيد عقل.
فالداخل الجارح، والعمق القلق، والمعاناة بأحوالها، زخمت المعيش في القصيدة، وفاقت ما هو تجريدي، سواء في قصائد الحب، أو الوطن، أو الإنسان: فالمرأة غير مرتبطة بكتاباته «افتراضية».. تصنع من الورق، والوطن ليس شعاراً وكليشيهات: فالمرأة تجربة جمالية، وإنسانية محسوسة، موجودة ربما بأسمائها وحالاتها في شعره. ليس عنده المرأة «المطْلقة» من صنع خيالات وتراكيب، بل المرأة ذات الحضور بالجسد، والمزاج والتجربة والعلاقة. وهذا ينطبق على مختلف ما عاينه وعاشه، فالشكل ليس مراد القصيدة، وإذا كان كذلك، فهو يفرغها من حياتها، وتناقضاتها واعتمالاتها. من هنا أنه أضاف إلى الوصف التشكيلي «التجريدي»، مفهوم المرأة بجسدها، وغرائزها، وضعفها وقوتها، وأثرها المادي والمعنوي عليه. (وهذا ما لم يفعله سعيد عقل).
بل إن نمط حياته مختلف عن معظم الشعراء من سعيد عقل إلى نزار قباني، إلى ميشال طراد: فهؤلاء كانوا إلى حدٍّ ما تحت سقف قوالب المجتمع والقضايا والتماثل مع ما هو لازب طبعاً الى حدٍّ ما، لكن موريس عواد كان على النقيض، خارج البهرجات والتنازلات والاحتفالات والعلاقات المحكومة بالتقاليد: كأنه كان داخل كل المجتمع وخارجه، داخل كل القضايا وخارجها، داخل اللغة وخارجها: لم يختر كسواه سبيلاً واحداً الى الشعر وبقي يتبعه، بل تنوعت تجاربه الإنسانية ومنها تنوعت أعماله (50 كتاباً). غزير؟ ربما! لكن في كل كتاب نكهة جديدة، فهو لا يقلّد نفسه ويقع في النمطية السهلة، بل كان يصوغ حياته ومآلته في تشكيل مفتوح.
في سن الخامسة والثمانين رحل، وكأنه ترك مؤلفات لا ترحل. رصيد شعري كأنه ضرب للشعر كل مواعيد الحياة…
وحتى الموت!