في العيد الوطني لبلاده تفادي دونالد ترمب امتداح نفسه وهجاء خصومه. قدَّم نفسه حارساً لاستمرار الحلم الأميركي. حاول مخاطبة أميركا العميقة، التي يثيرها وهجُ الريادة والازدهار والقوة. أصرَّ على التذكير بترسانة بلاده، فحلَّقت في الأجواء طائرة شبح من طراز «بي – 2» وهي نادراً ما تفعل في أجواء العاصمة. وبلهجة مثقلة بالتفاؤل، قال: «بالنسبة للأميركيين لا شيء يعتبر مستحيلاً». وانتزعت العبارة التصفيق من آلاف المشاركين.
ذكَّر ترمب مواطنيه بأنهم أبناء بلاد جمعت بين الاختراعات الرائدة والانتصارات في معارك كبرى. ووعد بأن ترسل الولايات المتحدة قريباً رجالاً إلى القمر، وأن تذهب أبعد من ذلك إلى «غرس العلم الأميركي على المريخ». وقال: «سنكون دائماً الشعب الذي هزم طاغية، وعبر قارة، وحقق إنجازات في العلوم، وحلق في الفضاء، وارتفع إلى السماء، لأننا لن ننسى أبداً أننا أميركيون والمستقبل ملكنا».
حامل شعار «أميركا أولاً» لا ينسى في تغريداته التذكير بأن اقتصاد بلاده هو الأول في العالم. ولا يتردد أيضاً في القول إن الجيش الأميركي هو الأقوى في هذا الكوكب. وكأن سيد البيت الأبيض يردُّ على السيناريوهات التي تقول إن احتفاظ الولايات المتحدة بالموقع الأول ليس إلا مسألة وقت، وإن العصر الصيني قادم حتماً، وربما خلال فترة تقل عن عقدين.
واضح من الكلام الأميركي أن روسيا لم تعد الهمَّ الأول. صحيح أن فلاديمير بوتين أنقذ الاتحاد الروسي من العاصفة التي فككت الاتحاد السوفياتي، وأنه أعاد تلميع هيبة الجيش الأحمر بعدما باع ضباطه بزّاتهم في شوارع موسكو إثر الانهيار السوفياتي الكبير. وصحيح أن بوتين أعاد روسيا لاعباً مهماً على المسرح الدولي. لكن الصحيح أيضاً هو أن روسيا البوتينية لم تنجز انتقالاً اقتصادياً موازياً للانتقال السياسي، وهو ما يحرمها من صفة العدو الأول أو الشريك الأول. لم تعد موسكو هاجساً يؤرق واشنطن، على غرار ما كانته في عالم المعسكرين. واشنطن مصابة هذه الأيام بالهاجس الصيني.
نغرق نحن الصحافيين أبناء الشرق الأوسط في ويلات هذا الجزء الشائك من العالم. تلاحق مشكلاته وانهياراته يكاد ينسينا أن مستقبل القرية الكونية لا يُصنع عندنا. هذا ما شعرت به في أوساكا بين آلاف الصحافيين الذين توافدوا لتغطية أعمال قمة العشرين.
سألت صحافياً يابانياً عن رأيه. قال: «المواضيع المطروحة على طاولة القمة مهمة ومعقدة، وتعني الدول القريبة والبعيدة واستقرار الاقتصاد والتبادل التجاري والاستثمار والتنمية. لكن الموضوع الكبير المطروح على طاولة العالم هو موضوع الصعود الصيني. ولعلنا في الطريق إلى تغيير كبير خلال عقد أو أكثر قليلاً. تغيير لن تقل نتائجه عن تلك التي تسبب بها انهيار جدار برلين».
استوقفني الكلام. سألته عن شعوره كياباني حيال تقدم الصين لاحتلال موقع الاقتصاد الثاني في العالم وانكفاء بلاده إلى الموقع الثالث، فأجاب: «النهوض الصيني أمر واقع، على العالم الاستعداد للتكيف معه. لا خيار أمامنا غير العودة إلى تحفيز جامعاتنا ومراكز الأبحاث، للانخراط أكثر وأسرع في الثورة التكنولوجية المفتوحة. حين يولد عملاق على مقربة منك لا تستطيع تجاهل ولادته. الصين تنين مقلق. إنها قوة هائلة مندفعة في العالم ونحو المستقبل. ما يقلقنا فعلاً هو أنها قوة غامضة حتى الآن. لا يمكن سبر نواياها الحقيقية، فهي دولة غير ديمقراطية بالمعنى الذي نعرفه. ثمة من يخشى أن تكون تجربتها تبعث برسالة مفادها أنه يمكن تحقيق التقدم الاقتصادي والتكنولوجي من دون الوقوع في إغراء الديمقراطية. ولهذه الرسالة وقع يتخطى المحيط الآسيوي. لهذا تحتاج اليابان إلى صيانة دائمة لعلاقتها مع القوة الصاعدة وإلى صيانة عميقة لتحالفاتها، خصوصاً مع أميركا».
مشهد اللقاء الأميركي – الصيني في أوساكا سبقته مقدمات. في بداية 2017 حين كان ترمب يستعد لتسلم مهامه استمعنا في القاعة الكبرى في منتدى دافوس إلى خطيب استثنائي، اسمه شي جينبينغ. جاء الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني مدافعاً عن العولمة وإزالة العوائق. وفي رسالة صريحة إلى الرئيس الأميركي المنتخب الذي يقترب من البيت الأبيض قال: «لا أحد يخرج رابحاً من الحرب التجارية». بعدها بعام وقف ترمب على المنصة نفسها وبدا واضحاً من جوهر المواقف أن الحلمين الأميركي والصيني يتجهان نحو نوع من التصادم. إنها معركة الموقع الأول في الاقتصاد العالمي، وثمة من يعتبرها معركة القرن الحالي.
لم يخف ترمب رغبته في ترويض التنين الصيني، تحت شعار إزالة الخلل الذي يعتري العلاقات التجارية بين البلدين. ومع فرض رسوم على سلع صينية بدأت رياح الحرب التجارية في الهبوب. وسارع خبراء إلى القول إن هذه الحرب ستلحق ضرراً أكيداً بالاقتصاد الصيني، لكن الاقتصاد الأميركي لن يكون بمنأى عنها. والأمر نفسه بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، خصوصاً بعدما تمدَّدت مبادرة الحزام والطريق في شرايين القرية الكونية.
في قمة أوساكا بين ترمب وشي كان لا بدَّ للصحافي المتابع من أن يلتفت إلى رجل ثالث. كان الرجل بعيداً وغائباً، لكن ظله كان شديد الحضور. إنه ظل رين جينغفي مؤسس شركة «هواوي» عملاق الاتصالات الصينية. إنها الشركة الثانية عالمياً للهواتف الذكية والرائدة في تقنية شبكات اتصالات الجيل الخامس.
تكاد حكاية الرجل الثالث تختصر قصة الحلم الصيني الذي يهاجم اليوم الحلم الأميركي بعدما أزاح التفوق الياباني. حين كان صغيراً كانت بلاد ماو تبخل على أطفالها باللحم والخضراوات. وكان من الصعب الذهاب إلى المدرسة من دون ثياب مرقعة. لكن هذا المهندس الذي مرَّ في الجيش راهن بعده على التقدم التكنولوجي والابتكار. وها هي أميركا تتخوف من أن تؤدي هيمنة «هواوي» على نشر الجيل الخامس إلى وضع أسرار العالم على مائدة الحزب الشيوعي الصيني، الذي باتت أفكار شي مدرجة في ميثاقه، أسوة بماو وبدينغ هسياو بينغ.
إنه سباق القرن. تغيرت الصين، وعلى العالم أن يتغير. وضعت ضريح ماو في عهدة مخيلة «هواوي» ولم تحتفظ من تعاليم «الربان العظيم» إلا بحزبه كآلة استقرار في صعودها نحو الموقع الأول. تحقق «هواوي» ما عجز ماو عن تحقيقه.