بعد مرور أكثر من أربعة أعوام ونيف على اضطرابات الشرق الأوسط، وبعد سنة ناقصة بضعة أيام على شغور الموقع الرئاسي المسيحي الوحيد بين لبنان على المتوسط والفيليبين عند بحر الصين، قرر الفاتيكان إرسال مندوب من قبله إلى بيروت.
كثيرة هي الحقائق والوقائع التي تثيرها تلك المفارقة. فعلى سبيل المثال، وبعد زلزال «داعش» في الموصل ونينوى منتصف العام الماضي، كانت المأساة قاسية. آلاف النازحين، مئات القتلى، شعب كامل اقتلع من أرض عاشها وعاشته آلاف الأعوام.
حتى انتبهت روما إلى الأمر. فأرسلت منتصف آب موفداً لها إلى إربيل. وصل يومها إلى مملكة البارزاني، الكاردينال فرناندو فيلوني، ليبحث في كيفية إنقاذ من تبقى من أهل قرقوش وبغديده والموصل. علماً أن مهمة الرجل في كرسي بطرس، هي عمادة مجمع تبشير الشعوب. الذين رافقوا الوفد المشرقي الكبير الذي جال مع نيافته بين عنكاو ودهوك، نقلوا انطباعات عن الزيارة مفادها أن من لم يهاجر من مسيحيي العراق قبل التحرك الفاتيكاني، سيهاجر بعده حتماً. جاء الرجل وهو لا يعرف عن المنطقة التي يزورها أي حقيقة، ولا أي معطى. وجاء لا يحمل غير مسبحة صلاة، ودعوة إسكاتولوجية للرجاء باليوم الآخر…
قبل أسابيع قليلة، وفي يقظة أخرى من احتضارات الضمير العالمي، دعت الأمم المتحدة إلى لقاء في جنيف حول أوضاع الأقليات الدينية في المنطقة ومصيرها. جاء ممثلو الدول الكبرى من عواصمهم. وزراء خارجية من كل الرتب. الفاتيكان المجاور اكتفى بتمثيله عبر سفيره لدى المنظمة الدولية في مدينة السلام. كان صوت لافروف مدوياً. وكان صوت المرجعية المسيحية الأولى في العالم، خافتاً.
الصور والمشاهد نفسها تتكرر على امتداد عقود طويلة من مآسي المنطقة. حتى أن البعض بات يعتقد أن ثمة سوء تفاهم عميقاً يسود بين مسيحيي الشرق وبين الفاتيكان، في إدارته السياسية الدبلوماسية، حول آخر بقايا «المسألة الشرقية». سوء تفاهم تروي التحليلات أن من مكوّناته عوامل كثيرة. منها تاريخي، بدأ مع حركة الليتنة ومحاولة إلغاء الهوية المشرقية للكنائس المحلية قبل عقود. وهو ما أرسى نمطاً بنيوياً من النظرة الفوقية أو الازدرائية بين روما وكنائس الشرق. وهي مسألة يعرفها الجميع ولا يتطرق إليها أحد. حتى باتت من التابوات الكثيرة التي تلف حرمات الكنيسة. حتى أن الذين يذكرون البطريرك الراحل مكسيموس الخامس حكيم، في دورة انعقاد السينودس الخاص بلبنان، في خريف 1995، لا يزالون يذكرون صوته يعلو احتجاجاً على التعاطي البروتوكولي معه كرئيس كنيسة، من قبل الكوريا الرومانية. ولا يزالون يذكرون جلوسه بثوبه الرسمي، لا بلباسه الحبري، في المقاعد المخصصة للمصلين، احتجاجاً منه أثناء القداس الاحتفالي في كاتدرائية مار بطرس.
ومن العوامل الأخرى المكونة لسوء التفاهم – التابو هذا، ما يتعلق بالسياسة وبقراءة أحداث العالم والمنطقة، سابقاً وراهناً. ففي روما من يعتقد فعلاً أن لمسيحيي المشرق وظيفة واحدة، أن يكونوا «مختبر» تعايش مع الإسلام. إذا نجحوا في وظيفتهم أدخلوا إلى الإسلام شيئاً من مدنية الدولة الغربية. وإذا لم ينجحوا كان مصيرهم بين الذهاب غرباً، وبين القضاء، كما كل الكائنات المختبرية. ويروى أن هذه النظرة لها فلسفتها في روما، منذ أيام منظرين لها كبار، واسماء مثل كارلو فورنو وكازارولي وغيرهما.
في المقابل ثمة قراءة مناقضة لدى بعض الدوائر الفاتيكانية، تقول إن مسيحيي الشرق، وخصوصاً لبنان، مسؤولون إلى حد كبير عن سوء أوضاعهم. قبل عقدين عقدت لهم الكنيسة الجامعة مؤتمراً خاصاً، وأصدرت لهم إرشاداً، فرموه في أدراجهم طيلة عشرين عاماً. لم يثمروا مقدرات كنيستهم العائلة، ولم يطوروا حضوراً مسيحياً فاعلاً، ولم يتفقوا مع أحد ولا حتى مع أنفسهم، ودأبوا على حرفة رمي المسؤوليات على الآخرين. تباين ظهر جلياً في أكثر من محطة مفصلية. في الحرب يوم تحركت الرهبانيات، فاصطدمت بروما. وفي الطائف يوم تباين الفاتيكان مع بكركي بصمت. واليوم أيضاً، إذ يلفت أن القاصد الرسولي المقيم على بعد أمتار من الصرح، لا يزوره إلا في المناسبات العامة. يضاف إلى كل تلك اللامقولات، كلام كثير عن أوضاع فاتيكانية خاصة في زمن البابا فرنسيس. وعن أجنحة في روما بين المجمع الشرقي وبين أمانة سر الدولة. وحتى عن أمراض تضرب البعض، كالتي عدّدها فرنسيس في خطابه التاريخي الصدمة، حول هنّات أهل روما.
وسط ذلك كله، يصل إلى بيروت في الثاني من ايار المقبل، الكاردينال دومينيك مامبرتي. زيارة ستستمر أياماً عدة. وستتخللها لقاءات كثيرة وشاملة. لكن اللافت أن الزائر البابوي يصل بعد أربعة أشهر على تركه موقعه كوزير لخارجية الفاتيكان. ويصل في مهمة محصورة بالاطلاع على الوضع اللبناني. من دون أي مشروع ولا تصور. ويأتي قبل أسابيع قليلة على انقضاء عام كامل على الشغور الرئاسي. زيارة يبدو أنها تأخرت بعض الشيء. لكنها تظل خاضعة لقاعدة الأفضل من ألا تأتي أبداً.