غداً ٢٩ أيار ستجري الانتخابات البلدية في محافظتي الشمال وعكار. وهي بمثابة خاتمة أحزان وطنية استمرت طوال شهر أيار المشؤوم الذي فقد فيه اللبنانيّون وحدتهم المجتمعية الهشّة، وهي آخر مقوّمات وحدتهم الوطنية، بعد أن خسروا مكوّنات دولتهم، من الرئاسة الى الحكومة والمجلس والمؤسسات والأمن والاقتصاد.
كثيرةٌ هي المآسي والشواهد التي تفطر القلب وتهزّ الوجدان، إذ أطلق اللبنانيّون العنان لغرائزهم برفع الصوت هنا وهناك، وانكشف الجميع بأنّهم سياسيّون هواة وغير موهوبين ولا يعرفون شيئاً عن بديهيّات الإستقرار وبناء الدول ووحدة الأوطان. في شهر أيار ٢٠١٦ استوى في لبنان الذين يعلمون مع الذين لا يعلمون.
تحدّث الجميع عن الإنماء والعائدات. والجميع يعرف أنّ اللبنانيّين مهدّدون في نقدهم ولقمة عيشهم، بعد سنوات من الانهيارات الاقتصادية على كل المستويات، بالإضافة الى العقوبات المتصاعدة على لبنان، ممّا يهدّد النقد وسعر صرف الليرة التي لم نعد نسمع عنها شيء إذ أصبح جميع اللبنانيّين يتداولون بالدولار ونسوا تماماً أن سبعين بالمئة من موظّفي لبنان يتقاضون أجورهم بالليرة اللبنانية ويصرفونها بالدولار، كما نسوا أيضاً أيام كان الدولار ثلاث ليرات وكيف أصبح ثلاثة آلاف.
أعرف مثقّفين كباراً جدّاً وجامعات ومراكز دراسات محليّة واقليميّة ودوليّة شاركت في حفلة ضياع العقل اللبناني بين ركام الأوهام والتهيّئات السياسيّة والديموقراطية العرجاء. وقد ظهرت قبائل مدنية جديدة تريد استكمال مسيرة الادعاء اللبناني التاريخي بالحداثة والتمدن، فأعادت انتاج الطائفية والمذهبية والعائلية البغضاء بمنتهى الحماس والغوغاء.
تنكّر الجميع للإنجازات والدماء والشعارات الكبيرة بالحريّة والتحرير والسيادة والاستقلال، وأنّ وطنهم في عين العاصفة الهوجاء التي تأكل الكبير والصغير من فوقهم وتحتهم وحولهم، وتدفع بملايين اللاجئين والمشرّدين الى لبنان، وبأنّ هناك بلدات وقرى تضاعف عدد سكانها ثلاث مرات بسبب اللجوء. والمضحك المبكي أنّ البعض من هؤلاء بنوا برامجهم الانتخابية على أهميّة المساعدات الإغاثية للاجئين والمدمّرة للبنان لكي ينهضوا بلبنان.
أظهر شهر أيار ٢٠١٦ عمق الرغبة بالعنف عند عموم اللبنانيّين، وتطورّه الى حدّ ظهور موجة جديدة من العنف المدني والمقامرة بكلّ أسباب العقل والحكمة والأخلاق، أي أنّ اللبنانيّين الآن يقتلون بتهذيب وتواضع وتواطؤ، لأنّهم طائفيّون ومذهبيّون وقد قتلوا الآخر اللبنانيّ في نفوسهم وقلوبهم منذ عقود، وتمرّسوا على الكذب والخداع.
تأكّدنا خلال شهر أيار ٢٠١٦ أنّ حاملي السلاح في لبنان أيام النزاع المسلّح كانوا الأكثر وداعة ونقاء، لأنّ السلاح صادق ولا يكذب ولا يخدع بما هو أداة للقتل فقط، وأنّ هؤلاء المسلحين الأبرياء كانوا ضحايا العنف المدني العميق لدى النخب اللبنانية المدنية السياسية والطائفية والقبلية.
نستطيع الآن مع نهاية شهر أيار ٢٠١٦ أن ننعي العقل اللبناني بعدما اكتشفنا صناديق الانتخابات السوداء التي تحتوي على أسرار تحطّم رحلة الوفاق الوطني اللبناني، منذ اقلاعها من مطار القليعات في 5 تشرين الثاني ١٩٨٩ واغتيال قائدها الأول ثمّ الثاني والثالث ووو.. ثم شغور قيادتها وطاقمها، ثمّ تحطّمها فوق كل لبنان في أيار ٢٠١٦ عبر الانتخابات البلدية.
مات العقل في لبنان.. ومات الكاتب ومات القارىء والصديق والرفيق والخصم والحليف.. ومات الظالم والمظلوم.. ومات الحبّ والحبيب، والأمل والرجاء.. وأصبح شرط البقاء في لبنان أن تشرب من بئر الجنون والحقد والرياء، وأن تنسى كلّ القواعد والمعايير، وألاّ تميّز بين الخطأ والصواب. عندما يموت العقل تذهب روح الأوطان ويبقى الأشخاص على قيد الحياة كباقي الكائنات غير العاقلة.
في أيار ٢٠١٦، مات العقل في لبنان.