IMLebanon

25 أيار اللبناني إذ يعود وحيداً

 

يوم الخامس والعشرين من أيار (مايو) صار يوماً من التاريخ اللبناني ذي الأيام المتشابهة والمتناقضة، وبات، بعيد الوصول إليه بقليل، محطة افتراق بين كلام سياسي لبناني وآخر، ولم يتأخر الوقت ليصبح تاريخ تحرير الأرض المحتلة اللبنانية بدايةً لتاريخ داخلي مختلف، من سماته انقلاب التوافقات وتبدل التحالفات، ومن مواده اضطرام نار الخصومات ومناصبة فريق واسع من اللبنانيين العداء لفريق آخر.

حصل الانتصار على العدو الإسرائيلي بإرادة جمعية لبنانية، تحت سقف هذه الإرادة انضوى الطيف الأوسع من المواطنين. لم يكن الإنضواء نسخة حرفية يتبادل سطورها المنضوون، لكن كان القبول، لأسباب شتى، بتمرير حقبة القتال ضد الاحتلال وسط مظاهر رضا عام، أشبه «بتواطؤ» مارسه اللبنانيون الذين رأوا في هذا التواطؤ سياسة اضطرارية، أو ضرورية، تقتضيها مصالح البلاد والعباد.

هذا الانتصار، الذي بات في عمر السادسة عشرة، بدأ بفقدان بريقه منذ نعومة أظفاره، وبالتحديد منذ أعلن أصحابه أنه غير مكتمل وغير ناجز، وأن ما يترتب على الانتصار الكامل حيال الداخل الوطني، يختلف عما ينجم عن الانتصار الناقص حيال الداخل ذاته. كانت تلك الشرارة التي أشعلت السجال، فمن ظنَّ أن المهمة القتالية التي تولاها «حزب الله» مهمة موقتة خاب ظنه، ومن اعتقد أن السلاح سيستكين بعد تحرير الأرض بان خطل اعتقاده، وما ثبت لاحقاً وتوالى إثباته، هو أن السلاح مرتبط بديمومة وجوده، وأن ضمانة «السلاح هي السلاح»، وأن مهمة القيمين عليه تقدِّم مسألة البحث عن مبررات ثبات وجوده، على كل المسائل الباقية.

وككل الأفكار التي يكتب لها البقاء في الديار العربية، استمرت فكرة السلاح والمقاومة على رغم تبدل معطيات مستنداتها، واختلاف قواعد ارتكازها النظرية والعملية. كانت الإيديولوجيا حاضرة، وهي ما زالت حاضرة، ومع الإيديولوجيا التعبئة الشعارية القومية، التي جاورتها وشاركتها الهتاف، التعبئة الدينية والمذهبية، وقد كتب التفوق لهذه الأخيرة، بعد أن صارت القومية رجع صدى عتيق، وبعد أن بات النضال القومي أمنية للقاعدين!!

ولأن الإيديولوجيا ليست ممارسة عارية فقط، فقد استنبطت الممارسة الإيديولوجية سياسات ساهمت في تأكيد تفوق النظرية السلاحية بعد أن زال برنامج قيامها.

من وقائع ممارسة «البناء الفوقي» كانت سياسة إلقاء القبض على «البناء التحتي» وفرض السيطرة عليه. جرى ذلك بقوة الهيمنة السورية المطعمة بخطاب القومية والممانعة والصمود، أي بخطاب السياسة السياسية التي توقفت عن ممارسة سياستها العملية منذ أواسط سبعينات القرن الماضي، وتمَّ ذلك بمؤازرة مناخ الحنين الواسع، الذي ما زال ينبض بالحياة، ليس لدى فريق واسع من اللبنانيين فحسب، بل ولدى جمهور واسع في كل البلاد العربية. مما لا تخطئه العين، هو أن شعوراً دفيناً بالكرامة المجروحة، في ميدان الصراع العربي ضد إسرائيل، ما زال يضج في النفوس، ومما لا يجب إشاحة الفكر عنه، هو أن هذا الحنين شكَّل سترة نجاة ودرعاً واقية، لكل خطاب المقاومة الإسلامية في لبنان.

الخلاصة من ذلك، هي أن السيطرة في لبنان لم تكن يوماً عارية فجَّة، بل إنها مغلفة أولاً وقبل كل شيء، بمقولات التصدي للغطرسة الإسرائيلية، وللأطماع الاستعمارية، أي بكلام له معطياته المادية المحسوسة، مما لا يمكن الردّ عليه بعبارة: كلام حق يراد به باطل، بل يجب البحث في التتمة المناسبة لهذه العبارة، فإذا كان الكلام كلام حق، فكيف تُعرَّف الحقوق الوطنية وما المسؤولية عنها؟ وإذا كان يراد بالكلام الباطل، فما وجوه الباطل فيه، وما الردود على هذا الباطل؟ الحصيلة في هذا المجال باهتة، لأن العجز عن ستر باطل الكلام صار واضحاً، لذلك باتت المجاهرة بالاستمرار فيه مرادفة لممارسة القهر وتأكيد التسلط، كذلك فإن القصور عن فضح باطل القول والممارسة، ببديل سياسي مناسب، دفع أهل القصور إلى اعتماد لغة تحمل الكثير من كلام الحق الذي يراد به الباطل أيضاً.

25 أيار من العام الحالي، يعود وحيداً. هو تاريخ تحتفل به فئته، وينساه كثيرون من أبناء الفئات الأخرى. وقْعُ صوت إعلان النصر هذه السنة، يزداد خفوتاً مع ارتفاع ضجيج الاشتباك في الخارج العربي. عاد الانتصار وحيداً، وقد يزداد وحدةً حتى يلامس حد العزلة، طالما أن صوت الخارج يحتل مساحات صوت الداخل، ويجعل هذا الصوت امتداداً لدوي نبرته العالية.