تعود بي الذاكرة الى ذلك اليوم الأغر في تاريخ لبنان الحديث… يوم دحرت المقاومة العدو الإسرائيلي مذعوراً من لبنان، يجرّ أذيال الخيبة والعار، وخصوصاً أذيال «تجربته» الأولى في هذه المنطقة: الإنسحاب من دون أي مقابل!
الإنسحاب من دون أي وريقة!
الإنسحاب من دون أي قصاصة ورق تحمل أي توقيع ولو كان من شخص عادي!
الإنسحاب… ولا كامب دايڤيد باتفاقية أو بإتفاقيتين!
الإنسحاب… ولا وادي عربة!
الإنسحاب… ولا أوسلو!
في ليلة ليس فيها ضوء قمر، غادرت جحافل العدو مهزومة أرض الجنوب المقدّسة، التي كانت قد روتها الدماء الطاهرة، دماء قوافل الشبان الأبرار الذين إستشهدوا في مواجهة العدو العاتي… قبل أن يدحروا «الجيش الذي لا يقهر».
كان الحدث إستثنائياً.
ولعلها المرّة الأولى في التاريخ التي تنتصر المقاومة على الجيش. والمرّة الأولى في التاريخ التي تحقق المقاومة إنسحاباً مذلاً لجيش عدو.
إنسحبوا مذعورين.
تركوا أتباعهم في تيهٍ وضياع. حتى انهم لم يبلغوهم، سلفاً، بالقرار… فقط إستيقظوا على هدير جنازير الدبابات وهي تتجه جنوباً الى داخل فلسطين المحتلّة.
كانت ساعات للبهجة، وللإعتزاز، وللفخار.
وكان يوماً تاريخياً لا يغيب عن الذاكرة… وكنت قد حوّلت الوكالة الوطنية للإعلام الى مقر للإعلام العربي والعالمي الذي تدفّق مراسلوه ومصوّروه علينا بالمئات، واستقوا معلوماتهم من مراسلي الوكالة الذين غطّوا أرض الجنوب كلها… ما استفز العدو الإسرائيلي الذي شنّ على الوكالة وعليّ شخصياً (وبالإسم) حملات متواصلة، خصوصاً من إذاعة جيش الحرب الإسرائيلية، و»إتهمتني» بما أعتز به!
إننا اليوم إذ نستعيد تلك المرحلة المشرقة نتذكر معها كيف أنّ وحدة الموقف الوطني من الإحتلال الإسرائيلي أسهمت في تحقيق ذلك النصر الباهر.
صحيح أن الذين استشهدوا على أرض الجنوب هم المقاومون الأبطال. وان الدماء التي روت أرض الجنوب هي دماؤهم، والتضحيات (وذروتها بالمهج والأرواح) هي تضحياتهم.
ولكن الصحيح أيضاً أنّ المقاومة كانت تسند ظهرها الى جدار صلب يحميها: جدار وحدة الصف اللبناني وراءها… ودعم الجيش اللبناني الذي كانت قضية التحرير قضيته، وما زالت، كما يفترض أن تكون.
والصحيح، استطراداً، انك لم تكن تجد لبنانياً واحداً، يقف ضدّ المقاومة.
والصحيح كذلك أنّ المدى العربي الواسع كان وراء المقاومة، بل والمدى الإسلامي الرحب (…)
لا شك في ان المقاومة هي اليوم اقوى من اي يوم مضى… ولكن لا شك ايضا في ان محيطها الداخلي والعربي لم يعد كما كان… لم يعد الحضن الدافىء الذي تفيء اليه.
لماذا؟
ليتنا جميعا نجيب عن هذا السؤال بدءا بسماحة الامين العام السيد حسن نصرالله.