كتب الصديق نجيب زوين في تويتر متسائلاً، كم من اللبنانيين يذكرون ما حصل يوم السابع من أيار 2008، وأضاف، “من ينسى تاريخه، فمستقبله ضائع”.
الواقع أن اللبنانيين نسوا ليس فقط هذا الحدث، بل مجمل تاريخهم العريق الذي جعل من لبنان اسماً على شفة كل إنسان في العالم. ولا يجب أن نلوم اللبنانيين، فهم بشر تعلّموا أن يتعايشوا مع الآلام، ويتأقلموا مع الأحزان. في أعماقهم تعيش ثقافة الفرح. والفرح لا يقبل الإستسلام للحزن والألم، بل يتطلع دوماً إلى الغد. لكنهم نعم، نسوا تاريخاً من الممارسة الديموقراطيّة الحرّة التي اعتادوها قبل 1969. فسيطرة السلاح الخارجي على نمط حياتهم، بعثت فيهم ثقافة الإستسلام إلى قرارات هذا السلاح، وذلك كخيار أفضل من خيار إضاعة الشغف بالفرح المتجذر في ثقافتهم. فبين الفرح وثقافة الإستسلام للخارج إختاروا الثانية. وكان سهلاً هذا الخيار لأن ثقافة الفرح لا تعرف مذهباً ولا ديناً ولا حزباً ولا زعيماً. بينما ثقافة الإستسلام ترتاح على اكتاف زعماء وعدوهم بالحريّة وأفهموهم أن الحريّة تكمن في المذهب والطائفة، وليس في الوطن. الزعماء استسلموا إلى الخارج في لعبة تقرير مصير الوطن، واكتفوا بلعبة أعطاهم إياها هذا الخارج، ألا وهي لعبة حماية الطائفة أو المذهب.
السابع من أيار أكّد أن حلم العودة إلى الوطن مع زعماء تعوّدوا الإستسلام للخارج والإكتفاء بلعبة الطائفة والمذهب، غير ممكن. حلم الصراع بين 14 و 8 آذار لبناء وطن، تحطّم سريعاً على صخرة القوّة الخارجية الحاضنة لـ 8 آذار، إذ كشفت هجمة السابع من ايار، أن شعار “المقاومة”، ليس شعاراً وطنياً، بل غطاء لنظام وليّ الفقيه في لعبة حصان طراودة الشيعي، من أجل اقتحام الأسوار العربيّة. ذلك التاريخ “المجيد” ، كشـف سريعاً أن “المقاومة” هي رمز الشيعية السياسية الجديدة للإستيلاء على لبنان، كما كانت القوميّة العربية رمز السنّية السياسية في بدايات إستقلال لبنان.
السابع من أيار، كشف أيضاً أنّ زعماء لبنان لا يعرفون في ممارستهم هواياتهم السياسية في هذا الوطن الصغير، إلا ما يقرره أولياء النعمة. جماعة 14 آذار ذهبت وفقاً لمقالة في جريدة السفير، إلى التواصل مع القيادة الأميركيّة بغية حثّها على التدخّل لردع هجمة حزب إيران. جريدة السفير التي أقنعتنا ردحاً من الزمن، بأنها صوت اللبناني الذي لا صوت له في لعبة الطوائف، والقبائل، والزعامات، ويحمل هاجساً لحلم تحرير الإنسان العربي، نقلت مراسلات عن ويكيليكس للقائمة بأعمال سفارة الولايات المتّحدة في بيروت في حينه، ميشيل سيسون، تؤرّخ لمطالب قادة 14 آذار من الإدارة الأميركية. ولا شك أنّ نشر هذه المقالة في المنار، يؤكّد أنّ الغرض من مقالة السفير كان يهدف إلى إبراز “عمالة” هؤلاء القادة.
السابع من أيار لم يكشف فقط ذلك الوجه الطائفي المذهبي “للمقاومة” وإعلامها، بل كشف أيضاً هشاشة قادة 14 آذار وقلّة حيلتهم. فقادة 14 آذار الذين رفعوا شعار السيادة، لم يفهموا أن السيادة صنعتها لهم أولاً قرارات الأمم المتّحدة، وليست العواصم. حتى واشنطن وباريس تريدان الإلتحاف بالقرار الأممي للتدخل في لبنان، وليس بقرارات ذاتيّة. كما أنّه لولا الموقف الشّجاع لمشايخ الطائفة الدرزية في الجبل، لوضع حزب إيران يده عليه محقّقاً دويلته الشاملة من البقاع حتى الجنوب، مروراً بالضاحية الجنوبية لبيروت. دروز الجبل لم يتفاعلوا بروح طائفية مع تلك الأحداث، وإنما بثقافة الدفاع عن كرامتهم الحرّة التي عشقوها عبر مئات السنوات، والتي كانت نبراسهم في قتالهم ضدّ كل من حاول ان يضع يده على جبلهم، سواء الإسرائيلي أو السوري، وحتى إخوتهم من اللبنانيين، في إحدى مراحــل الحرب المؤسفة.
قرأت مؤخّراً في ليبانون ديبايت، بعض مذكّرات الدكتور وليد فارس، أشار فيها إلى مسعى مع قادة 14 آذار في بدايات حراكهم عام 2005، لتنظيم مناورات عسكرية مشتركة بين الجيشين الأميركي واللبناني، تعزّز من مناعة لبنان، سواء أمام سوريا المنهزمة، أو من يخلفها. إلا أنّهم رفضوا ذلك. هذا الأمر يؤكّد من جديد أنّهم ليسوا رجالات دولة تعرف كيف تأخذ القرارات المصيرية. هم ناشدوا الأميركيين من خلف الستار، بالتدخّل، وطالبوا بالسلاح مستعدّين لإعادة نار الفتنة الطائفية التي ترعرعوا في ظلالها. لم يطالبوا بتنفيذ القرار 1701 وبتمكين القوّة الدوليّة من إستكمال عملية إنقاذ لبنان. فالقوّة الدوليّة التي أنهت هيمنة حزب إيران والميليشيات الملتحفة رداءهما تحت عنوان “المقاومة”، على قرار الحرب في الجنوب فحسب، كان يمكن لها أيضاً، لو طلبت ذلك حكومة السنيورة، أن تنهي هيمنة قرارهم على لبنان بأسره. حرب حزب إيران عام 2006، جاءت برأي د. وليد فارس، نتيجة رفض جماعة 14 آذار المناورات العسكرية الأميركية اللبنانية المشتركة. وباعتقادي أن رفض هذه الجماعة طلب موقف أمميّ حاسم أدى ايضاً، إلى تصاعد هيمنة حزب إيران والشيعية السياسيـة بعد 7 ايار 2008.
لا أريد الوقوف على الأطلال كما ذهبت إليه مقالات عديدة نشرت بمناسبة هذه الذكرى السوداء، بل أعيد التذكير بأن زمن انتظار مواقف قادة “ما كان يسمّى 14 و8 آذار”، يجب أن ينتهى. وعلى الرئيس ماكرون أولاً أن يفهم هذا الأمر. كما نرجو بكل صدق أن يستمع غبطة البطريرك الراعي إلى هذا الصوت. لبنان بحاجة إلى رجل قرار، لا تتوافر مقوّماته حالياً إلا في شخص غبطته. نعم، الحل هو في التقدّم بطلب يمكن أن يستمع إليه العالم، من أجل تدخّل القوّة الدوليّة. نحن نرجو غبطته أن يكمل عظاته بعظة صريحة أخرى يطلب فيها من الأمم المتّحدة تنفيذ قراراتها، بدءاً من إتفاقيّة الهدنة التي تعيد عقارب الساعة الوطنيّة إلى ما قبل العام 1969، وصولاً إلى القرار 1701، الذي يستوجب أن تكمل قوّة الطوارئ في جنوب لبنان، دورها، وتنفذ باقي بنوده، ومنها نزع سلاح الميليشيات المسلّحة، وبسط سلطة الدولة على كل الأراضي اللبنانية، واستكمال تطبيق الدستور. سيكون لصوت البطريرك صداه العالمي. نرجو أن يفكّر بعقليّة رجل الدولة الذي يريد استعادة سيادة وطنه وحرّيته واستقلاله، وتحييده عن الصّراعات الإقليمية والدولية مهما تكن الصعاب، والإنطلاق في بناء الوطن الجديد وفقاً للمقوّمات الحضارية الحديثة.