السابع من أيّار، في السجل العالمي، هو يوم الانتصار، قبل سبعين عاماً، على النازية والفاشية. لكنه في تاريخنا الوطني المعاصر يوم شاهد على الفاشية «الموضعية». حزب مسلّح، بل حزب حربيّ، متسلّح بعقيدة أيديولوجية، بل بعقيدة حرب دائمة، لا مكان للسلم فيها إلا كفترات هدنة تحضيرية لحروب جديدة، يجرّد حملة تأديبية، استقوائية، استيلائية، على مدينة بيروت، بعد عام ونصف من عسكرته في وسط عاصمتها، وفرضه الحصار المطبق على وسطها التجاري والسراي الحكومية، وفي تحدّ صارخ لكل شيء: للدستور والميثاق، للنسيج الاهلي والاجتماعي البيروتي، لارادة البيروتيين، سواء المعبّر عنها في صناديق الاقتراع، أو المعبّر عنها في الأيام الجماهيرية المشهودة للحركة الاستقلالية عاماً تلو العام، لسابق الوعود التي قطعها قادة «حزب الله» بأنهم عدلوا عن مرحلة سابقة لهم، في الثمانينات، وما عادوا يريدون زج سلاحهم ومسلحيهم في معارك بالداخل اللبناني، ناهيك عن كلام كثير لهم بأنّهم «لن ينجروا الى الفتنة»، فاذ بهم يدخلونها من الباب الواسع، تحت عنوان «السلاح لمحاربة الفتنة»، والفتنة في هذه الحالة هي الآخر، والسلاح استعارة تجميلية لما هو الشرّ بعينه، بل الطيش: مداواة الفتنة بالفتنة.
في مثل هذا اليوم قبل سبع سنوات حسم مسلّحو «حزب الله» الجدل نهائياً، حول صفتهم كمقاومين أو صفتهم كميليشياويين، واستباحوا معظم العاصمة اللبنانية، متوقفين عند خطوط التماس العائدة لأيام الحرب الأهلية بين «شرقية» و»غربية»، ومشرّعين النوافذ لمشروع حرب أهلية جديدة. فبعد غزوة بيروت، والتحدي السافر والدامي لإرادة نسيجها الأهلي والسياسي، كانت لهم مغامرة، مكلفة، في بعض مناطق الجبل اللبناني. وعليه، فان السابع من أيار ليس فقط، تاريخاً لغزوة «موضعية»، ذات طبيعة تغلّبية فئوية، وأخرى انقلابية على كل ميثاقية لبنانية، بل إنه أيضاً كان يوماً عقد فيه العزم طرف لبناني، عملياً، ويفترض أن يكون قصدياً أيضاً، وإلا سيفسّر الأمر بالطيش وحده. على ماذا عقد العزم: على جرّ البلاد مجدّداً لأتون حرب أهلية، لا يمكن من يشعلها إهمادها ساعة يريد، ناهيك عن التحكم بمسارها ومنعطفاتها.
فالجميع يعرف أنّه، ولو سيطر الحزب على مدينة بيروت يومها، ولو تابع توغّله، رغم تصاعد الكلفة، في الجبل، ولو وسّع نطاق عملياته، وخرج من النطاق «الموضعي» لذلك الهجوم المسلّح، فإنّ سيطرته ما كانت لتدوم أسبوعاً واحداً، بل كانت البلاد ستذهب بأسرع طريق الى الحرب الأهلية. والمثال السوري واضح كفاية، كيف أنّ إيثار نظام آل الأسد الخيار القمعي الدموي للثورة الشعبية لم يفعل سوى تغذية منطق الاحتراب الأهلي وفصوله.
قبل سبع سنوات إذاً، هناك من فرض إرادته المسلّحة، بالقهر، على لبنانيين آخرين، من دون أن يكون بمقدوره، داخلياً او خارجياً، فرض السيطرة الناجزة، ومن دون ان تتدحرج الأمور في المقابل نحو حرب أهلية مفتوحة. فرض الواقع المحيط صلحاً في الدوحة في نهاية الأمر، يعكس بطبيعة الحال قدراً من التغلّب الفئوي للميليشيا في الميدان، لكن من تنصّل منه لاحقاً كان هذا المتغلّب، وصولاً الى الاطاحة بصلح الدوحة، في عراضة صباحية ميليشياوية، بعد ذلك بثلاث سنوات، ما خلّده التاريخ الوطني تحت مسمّى «القمصان السود«.
لم تتمكّن بيروت من صدّ المسلّحين الذين اقتحموها وتصرّفوا كجيش احتلال. لكنّها نجحت في ما هو أخطر بكثير: امتصاص كل المظلومية التي ظلم بها «حزب الله» أهلها، وتحويلها الى مظلومية بيروت نفسها، مظلومية المدينة المشرقية المتوسطية العربية التي تحولت منذ سبع سنوات وحتى تاريخه، الى ركن دائم من معاش أهلها، الذي عرف كل واحد منهم، وبشكل ملموس، كيف يصبر على الظلم، وكيف يفلت من الشرك الذي ينصب له، شرك الخروج على منطق الدولة للرد على الخارج على منطق الدولة. لم يقع «البيارتة» ومعظم اللبنانيين في مثل هذا في السابع من أيار. اما لأنهم لم يستطيعوا الوقوع في ذلك، وإما لأن مصالحهم وقناعاتهم كانت تدفعهم بوضوح الى ما هو عكس ذلك. في المقابل، مضى «حزب الله» في رحلة مديدة تحت عنوان «السلاح للدفاع عن السلاح»، أو الفتنة لمحاربة الفتنة، أي الفتنة من أجل الفتنة، على طريقة الفن للفن. فهذا المنطق اذ سوّغه الحزب لنفسه «موضعياً» ضد أهالي بيروت، عاد ووجد نفسه يسوّغه بشكل أكثر شمولية، وغير محدود بأجل، في سوريا، والى جانب نظام آل الأسد الدموي، وكلّه بداعي محاربة الفتنة.. بالفتنة. بهذا المعنى، السابع من أيار هو «الفلسفة» التي يستند إليها الحزب لتجويز تدخله في سوريا، أو في اليمن، أو في غيرهما، فلسفة الفتنة الاستباقية، الفتنة التي تحسب نفسها موضعية، في حين أن قانون انتشارها لا يملكه طرف بعينه، خصوصاً الطرف الذي يخدّر عقله بهكذا خزعبلات أيديولوجية.
لكن السابع عشر من أيار كانت أيضاً «تكتيكاً«. تكتيك سبق أن رأيناه في غزّة قبل ذلك بعام، يوم أطاح فريق بآخر بشكل دموي، انقلابي، وأيضاً بذريعة استباق الفتنة. يبقى أنه في قطاع غزة، الانقسام كان سياسياً، وبين فريقين، في حين انه في لبنان انقسام ترجم على خارطة طائفية ومذهبية. أساس التكتيك هذا أنّ القوة المدعومة من إيران ينبغي أن تسارع الى حملة قمعية موضعية للخصم، تؤسس عليها امتداد النفوذ الايراني في البلد المعني. بعد غزة، كانت استباحة بيروت، ثم استعيد هذا المنطق في العراق، وبعد ذلك في اليمن، مع جماعة «أنصار الله» الحوثية. يا له من منطق تدميري: الآخر المذهبي هو عين الفتنة، والتخلص منها بالتخلص منه. هذا هو منطق تسعير الفتنة. تكتيك احتلال المدينة، من بيروت الى صنعاء، فتعز، فعدن، سار على هذا المنوال.
هناك «تبييض أموال» لكن أيضاً هناك «تبييض عقائد». السابع من أيار كان يوم تبييض عقائد. باسم المقاومة حوّل الحزب مقاوميه إلى غزاة. قال لهم، هذه ليست عائشة بكار، هذه ليست الطريق الجديدة، هذه مارون الراس. سيطر المسلحون على المشهد سريعاً فقال لهم هذه الجليل. أما أهالي المدينة المستباحة فاسترجعوا ذاكرتهم، ولم يجدوا ما يقارنوا السابع من أيار به، إلا يوم غزو الجيش الاسرائيلي لثاني عاصمة عربية بعد القدس. لافت هنا هو حدّ التشاوف بين الإسرائيليين والإيرانيين: على كم عاصمة عربية يمكنك أن تسيطر. الاسرائيليون قالوا وقت الاجتياح نسيطر على اثنتين. الإيرانيون تفاخروا قبل وقت غير بعيد بأنهم استباحوا أربع عواصم عربية.
«تبييض العقائد» احتاج الى مزيد من الوقت حتى يظهر على حقيقته. حتى بعد السابع من أيار، كان «حزب الله» لا تزال له شعبيته بين السوريين مثلاً. ما سيتبينه السوريون بعد ذلك، واليمنيون، ومعظم العرب، أن المنطق نفسه الذي ترجم في السابع من أيار، لم ينتظر سنوات كثيرة، قبل أن يترجم نفسه تدميراً واسعاً لسوريا، وتهجيراً كثيفاً للسوريين، وحملة بدأها الحوثيون في صعدة ووصلوا بها حتى عدن، لمصادرة مصير اليمنيين، وتهديد الأمن القومي للشعوب العربية. لو لم يوضع حد سريع للاحتراب الأهلي بعد السابع من أيار، لكانت الكارثة الوطنية عندنا لا تقل عما نكبت به المجتمعات العراقية والسورية واليمنية، جراء التعميم الإيراني لمنطق أيار عربياً.