تبدّلت المفاهيم التي كانت تحكم العلاقة بين الشعب ومنتخَبيه من نواب ومجالس بلدية ومخاتير، بعدما أحكمت الأحزاب السياسية قبضتها على مفاصل الدورة الديموقراطية من مختلف جوانبها، وصارت طريقاً يجب على كل طامحٍ للنجاح سلوكها.
لم تكن فيروز تعلم يوم غنّت «يا مختار المخاتير»، في دلالةٍ الى مركز المختار وهيبته في قريته وبلدته، أنّ العزّ والهالة اللذين يحيطان بصفته الرسمية والشعبية سيتراجعان مع الوقت، أمام انقضاض الأحزاب على المراكز التي كانت تشكّل في السابق مدخلاً لهم إلى القرى والعائلات والعشائر، يمرّون عبرها، يقدّمون لها الخدمات لتكون صلة الوصل بينهم وبين الناس، لتنقلب الصورة والمشهد، وتصبح تلك الشخصيات، وفي مقدّمها المخاتير، وقد سمّيت سابقاً مفاتيح انتخابية، معلّقة على خصر مسؤولٍ حزبي، تستجدي رضاه بعدما كان يطلب رضاها، وتطلب أن تكون على لائحة المرشحين الذين تزكّيهم، حالهم كحال رؤساء البلديات والنواب أيضاً، الذين ينجحون بفعل العددية الحزبية، فيما تُكسر شوكة من لا يسير في درب التسليم والخنوع.
تعيش في ذاكرة الناس صورة المختار الذي ذاع صيته قديماً، يوم كان وجه مدينته وبلدته، مشرّعاً أبوابه للضيوف والزوّار، لا يدخل أحد القرية قبل أن يسلك طريقه الإلزامية، يوم كانت لا تدهم دورية لقوى الأمن أو الجيش منزلاً إلا في حضوره، ويوم كان مصلحاً إجتماعياً يدفع من جيبه الخاص لإتمام صلح أو إقامة غداء مصالحة، عندما كان يقصده مرشحٌ نيابي أو مسؤول حزبي ليجمع له أبناء البلدة من أجل كسب رضاهم وأصواتهم. ويوم كان ينجز المعاملات لهم من دون منّةٍ أو أتعاب، ويؤمّن لهم الطوابع التي يستجديها المخاتير اليوم بعدما كسرت شوكتهم وأصبحوا رهناً لهذا أو ذاك.
هي صورٌ باتت أشبه بالخيال مع تبدّل سيرورة الحياة وتغيّر قواعد اللعبة الديموقراطية لمصلحة الأحزاب التي ما برحت تسعى لتفكيك العشائر والعائلات من أجل مصادرة قرارها، فكان النواب من الحزبيين المخلصين، ورؤساء البلديات والأعضاء، يتقاسمون الولايات في ما بينهم، من دون أن يسلم المخاتير أيضاً، وقد عاندت الأحزاب فيهم إرادة الناس، ووجّهت المحازبين والمواطنين الى من تريد، فصار المختار المنتخب موظفاً عند الحزب الذي اختاره، لا صاحب قرارٍ حرّ ووجه البلدة والمدينة والعائلة.
يتحسّر الناس اليوم على الوقت الذي وصلنا إليه من تراجع دور المختار، خصوصاً خلال العقدين الأخيرين، ويقول السبعيني «أبو علي» لـ»نداء الوطن»: «إنّ قلّة قليلة من مخاتير اليوم لا تزال تحافظ على مركزها في مدنها وقراها، فالأغلبية محسوبة على الأحزاب كلٌ ضمن نطاق محافظته، وحال بعلبك الهرمل كسائر المحافظات، والأحزاب بمعظمها تمسك بقبضتها على المختار، وعملت على تقليص دوره وحصره بإنجاز المعاملات، وإبعاده عن واقعه الاجتماعي ونسيجه، وعن لعب الدور الذي يمكن أن يؤدّيه، ويحافظ من خلاله على تواصله الدائم مع الناس لمعرفة شؤونهم وشجونهم، لتتسنّى للأحزاب مصادرة هذا الدور والتحكّم بمفاصل حياة الناس، كتقديم مساعدات، والتوسّط لهم لدى الدوائر الأمنية والحكومية، وتالياً فرض الخيارات والأسماء التي تلائم تطلّعاتها وأهدافها»، وشدّد على «أنّ بعض المخاتير يمانع بعدم انصياعه ورضوخه، فيصبح هدفاً لقصقصة جناحه في الدورة المقبلة».
ويشير المختار ح. ع الى «أنّ الوضع القائم حالياً يفرض على المخاتير التواصل مع الأحزاب في سبيل تأمين المساعدات للناس في هذا الزمن الصعب، وهذا لا يعني بالضرورة الوقوف على باب الزعيم أو المسؤول، فالعلاقة اليوم تبادلية قائمة على الأخذ والردّ، والمختار يستمدّ قوّته من الشعبية التي يبنيها في بلدته ومدينته، ومقدار الخدمات التي يقدّمها، صحيح أنّ منازل المخاتير قديماً كانت مفتوحة ليلاً نهاراً، ولا يتقاضون بدل أتعاب عن المعاملات، لأنّ عدد الناس كان قليلاً، والتكلفة لم تكن كبيرة كما هو الحال اليوم»، ويلفت الى أنّ الكثير من زملائه لا يتقاضى بدل أتعاب عن المعاملات، سوى تكلفة الطوابع. ويوضح «أنّ كلمة مفاتيح انتخابية لم تعد سارية اليوم بعد التحوّلات التي أصابت المدن والقرى معاً، فالمنتسبون الى الأحزاب يزداد عددهم، وبالتالي يتقيّدون بقرار حزبهم في الانتخابات الاختيارية والبلدية والنيابية، كذلك الأمر أصبح ضمن كل عائلة ومنزل مرجعية تسمّى وفق المثل الشعبي «كوع» ينصّب نفسه متحدّثاً وآمراً وناهياً في شؤون عائلته، وانصياع الناس للمختار، كائناً من كان هذا المختار، أصبح على شفير الانقراض».