IMLebanon

انا وسيارتي: عن موتٍ خارج ساحاته

ليست سوى سيارة «بي أم دبليو» موديل عام ٢٠٠٤، غير أنّني أجزم بأنّ ما عاشته معي من مغامرات لم تمرّ به أي سيارة «مدنية» أخرى. فهي عدا عن كونها تحمّلتني طوال ست سنوات، كتب لها أن تسير بي مرات إلى حيث يقوم الموت، لكننا عدنا سالمين. يبدو أن أجلها لم يكن قد حان بعد.

ففي قلب الجحيم السوري، تنقّلت بين خطوط التماس. أقلّت مقاتلين وجرحى، موالين للنظام السوري ومعارضين له. ست سنوات من «المقاومة» عاشتها السيارة معي، أربع منها قضتها متنقلة بين مخيمات اللجوء الفلسطيني، وعلى الطرقات الواصلة بين مجدل عنجر وعرسال البقاعيتين، وصولاً إلى وادي خالد شمالاً. ثم بين الحدود الشرعية وغير الشرعية الفاصلة بين لبنان وسوريا. دخلت سيارة الـ «بي أم دبليو» الأراضي السورية عبر معابر التهريب أكثر مما دخلتها عبر تلك الرسمية. تلك السيارة لم تخذلني يوماً. وعندما اعتُقلتُ في سوريا في فرع ٢١٥ في الأمن العسكري، بقيت تنتظرني عند حاجز المصنع ليومين. بعد خروجي من المعتقل بقدرة قادر ومساعدة صديق، أوصلوني إلى المصنع، إلى حيث ركنتها. وبالتأكيد لا أنسى جولة المواد المتفجرة التي قمت بها على متن السيارة في الضاحية الجنوبية لمعرفة جدوى الحواجز الأمنية وأجهزة كشف المتفجرات. يومها كانت الفكرة الأولى فحص فعالية قطعة البلاستيك السوداء التي يخرج منها قضيب حديدي على شكل هوائي، ويُزعم أنها تكتشف المتفجرات، والتي انتشرت بكثرة في المجمعات التجارية. وضعنا قنابل يدوية عدة وأصابع ديناميت وفتيل تفجير وصاعق ودخلنا إلى عددٍ من المجمعات التجارية من دون أن يُكتشف أمرنا. لكن نسيت المواد المتفجرة في تابلوه السيارة، لأدخل بها إلى الضاحية وأمر على عدد من الحواجز من دون أن يكتشفها أحد.

من بين المحطات البارزة، كانت وادي خالد. حصل ذلك في الأشهر الأخيرة من عام ٢٠١٢، عقب انطلاق «الثورة السورية». آنذاك كانت التجارة الرائجة في أوساط المهرّبين تهريب السلاح: بنادق صيد أوتوماتيكية وأسلحة حربية. يومها صعد في السيارة للمرة الأولى ثلاثة مسلّحين. كنّا في الأراضي الضائعة بين البلدين. وكانت «المهمّة» المُراد تصويرها عمليات تهريب السلاح من لبنان إلى سوريا. تعددت بعدها المهمّات الصحفية التي رافقتني فيها. بعد «الوادي»، جلت وأنا خلف مقودها في قرى حوض العاصي، الأراضي السورية التي يقطنها لبنانيون. يومها، قاد السيارة أحد أفراد «الدفاع الوطني» المدعو «أبو إيهاب». والأخير، يقود السيارة بسرعة جنونية. كنت أنا وزميلي فراس الشوفي في سيارة الـ «بي أم دبليو». وكان يتبعنا زميلنا حسن عليق بسيارته. قضينا النهار بأكمله نُحاول إقناع «أبو إيهاب» بالتنحي كي يقودها أحدنا، لكن جهودنا ضاعت عبثاً. مرّ النهار على خير ونجونا من أكثر من حادث، والسيارة كادت تتحطم مرات عدة.

قادتني سيارتي إلى القصير والقلمون، يوم كانت الأولى معقلاً لمسلّحي المعارضة السورية، ثم بعد سيطرة حزب الله عليها. ومن عرسال، عبر الجرود الوعرة، عَبَرت «التاكسي»، كما يُسمّيها مسلّحون سوريون، إلى قرى القلمون التي انسحبت إليها كتائب المعارضة المسلّحة. يومها أُزيلت لوحات تسجيل السيارة للحؤول دون استهدافها من قبل مدفعية الجيش اللبناني، ثم انطلقت في الجرود. «كارتير الزيت» ثُقِب في الطريق، لكنّ «مُكَب» سوري، جرّ السيارة إلى برّ الأمان. هناك أصلحها أحد الميكانيكيين. كان يقود السيارة فهد حمّادي، أحد الشبّان الذين تنقّلوا في صفوف المعارضة المسلحة بدءاً من الجيش الحرّ وانتهاءً بتنظيم «الدولة الإسلامية». الشاب نفسه عاد ليختطف لاحقاً مصوّراً أتعاون معه من قلب عرسال إلى وادي ميرا، ثم ساومني على فدية مالية.

صعد في سيارتي مرّة «انتحاري». حصل ذلك في عرسال. يومها كان يرافقني أحد عناصر «جبهة النصرة». قبل أن ينضم الرجل الثالث. لم يكن انتحارياً بالمعنى الحرفي، بل كان يرتدي حزاماً ناسفاً. رجلٌ مزنّرٌ بحزامٍ ناسف. سمّوه ما شئتم. في قاموس الجهاديين، يُعتبر «أمنياً»، أي إنّه ينفّذ المهمات مرتدياً حزامه الناسف لتفجيره إذا ما تعرّض للتوقيف. تلك المرة الأولى التي كنت أُعاين فيها حزاماً ناسفاً عن قُرب. كنت أظنّ أنّ هناك زرّاً يُحتمل أن يُضغط عليه بالخطأ فينفجر. كان شعوراً لا يوصف. حتى ردّ فعل ذلك الشاب كان استثنائياً. صوت ضحكاته ملأ المكان عندما طلبت إليه أن يخرج من السيارة. طلب مني الهدوء، ثم فكّ الحزام ليُرشدني إلى «عتلة التفجير والأمان». و«الحَلَقة» التي إذا ما قُطعت، يُستعاض عنها بـ«حَلَقة» بديلة لتفجير الحزام. لا أدري إن فجّر نفسه لاحقاً، أو إن كان قد قُبض عليه أو قُتل في أحد الاشتباكات. علماً أن علاقتي بهؤلاء دفعت أحد رؤساء أفرع استخبارات الجيش إلى أن يُشيع تُهمة تفيد بأنّه طُلِب منّي نقل سيارة مفخخة مقابل تسهيل إجراء مقابلة مع أمير «جبهة النصرة» الشيخ أبو محمد الجولاني. ثمّ جرى تداول التهمة نفسها لتُلصق لاحقاً بإعلاميين آخرين.

سيارتي لم تكن سيارة عادية في نظري. خرجت بخير من قلب الجحيم السوري، لكن شاءت الأقدار أن يقُضى عليها في تفجير عبوة ناسفة، استهدفت مصرف لبنان والمهجر غروب الأحد الفائت في فردان. لم أتعرّف إلى السيارة في اللحظة الأولى. كنت أبحث عن ضحايا محتملين. لحظات مرّت في موقع الانفجار قبل أن أُدرِك أن السيارة المهشّمة بفعل عصف الانفجار وألواح الزجاج المتساقطة من مبنى المصرف هي سيارتي. ظننت لوهلة أنّ العبوة الناسفة كانت مزروعة فيها قبل أن يتبين أنّها كانت إلى جانبها.

في اليوم التالي للانفجار، أثناء وجودي في المكان، تقدّم مني رجلٌ لا أعرفه مصافحاً. هنّأني على سلامتي ثم سألني: «بدك تبيعها؟ السيارة.. بدك تبيعها؟».. سألته عمّن يكون فردّ قائلاً: «عندي كَسر سيارات.. جيت شوف شو بدي اشتري وسيارتك ما بتروح إلا كسر». قالها جادّاً، فأجبته: «صراحة.. ما قرّرت بعد». طلب رقم هاتفي وأعطاني رقمه قبل أن أنصرف. وأخبرني أنّه سيتّصل في اليوم التالي ليعرف كم أُريد مقابل سيارتي التي تحوّلت إلى قطعة خردة.

لقد دخلتُ بهذه السيارة إلى حيث الموت عشرات المرات، إلى حيث القصف والعبوات الناسفة والألغام الأرضية بين الحدودين والسيارات المفخخة، لكنّ شيئاً لم يصبها. في يوم أحدٍ مُشمس وهادئ، قررت أن أركنها، على غير عادتي، إلى جانب الرصيف تحت شجرة خضراء في فردان، فانتهى عمرها هناك، آخذاً معها جزءاً من ذاكرة وحياة يومية.