IMLebanon

هل بدأت مرحلة الصراع على الخرائط؟

 

بعد الانسحاب من أفغانستان، تستعدُّ «الامبراطورية الأميركية» لمغادرة العراق عسكرياً، في نهاية هذا العام. ويعتقد كثيرون، أنّها ستغادر سوريا قريباً، على رغم تكرار النفي. والفراغ الناتج من هاتين العمليتين سيُحدِث اختلال أوزانٍ في البلدين العربيين، ويحرِّض اللاعبين الآخرين على «التدافع» لتوسيع مناطق النفوذ هناك. فالشرق الأوسط، بعد استكمال بايدن خياراته، لن يكون كما قبلَه.

ليس منطقياً الاعتقاد أنّ الولايات المتحدة تغادر الشرق الأوسط وتتركه للثلاثي الإقليمي إيران- تركيا- إسرائيل، وللثلاثي الدولي أوروبا- روسيا- الصين. والتوصيف الأكثر دقَّة لسلوك إدارة الرئيس جو بايدن في الشرق الأوسط هو: إعادة التموضع، وإعادة ترتيب عناصر القوة بين عسكرية وسياسية واقتصادية.

 

الخبراء في السياسة الأميركية يقولون: لا يمكن للولايات المتحدة أن تنسحب من منطقة هي القلب في المعادلات الدولية الاستراتيجية. وحتى الرئيس باراك أوباما لم يقصد ذلك عندما أطلق مسار الإنسحاب من المنطقة، خلال وجوده في البيت الأبيض، ويوم كان بايدن نائباً له.

 

على العكس، يريد الأميركيون تقليص انخراطهم الميداني المُكلِف بشرياً ومادياً، في المناطق الملتهبة، أفغانستان والعراق وسوريا، وتدعيم تمركزهم في المناطق الآمنة في الخليج العربي وبلدان أخرى أكثر أمناً لهم وأقل كلفةً في الشرق الأوسط.

 

إضافة إلى السعودية وقطر والإمارات والكويت والبحرين وعُمان، يتمركز الأميركيون عسكرياً في مصر. وقبل 6 سنوات، بنوا قاعدة مشتركة مع الإسرائيليين في الجنوب، مزوَّدة بمنظومة رادارات، هدفُها حماية مفاعل ديمونا. والأبرز هو ما يتردَّد عن نية واشنطن تدعيم حضورها العسكري في الأردن، بعد انسحاب قواتها من غرب العراق وشرق سوريا.

 

المعلومات تشير إلى أنّ الأردن سيكون في المرحلة المقبلة موقعاً مميزاً عسكرياً للأميركيين. وفي الموازاة، هم سيدعمون تموضعهم العسكري في التنف، عند مثلث الحدود بين سوريا والعراق والأردن، لضمان سيطرتهم على البادية العراقية- السورية حيث تترعرع بيئة «داعش»، ولرصد الخط الذي تقيمه إيران بين بغداد ودمشق وبيروت.

 

إذاً، الانسحابات من أفغانستان والعراق وربما سوريا جزء من التكتيك الأميركي، تحضيراً لخيارات جديدة. ولذلك، لا يبدي حلفاء واشنطن الإقليميون أي مخاوف على أمنهم في المستقبل. وعلى العكس، بدأ بعضهم، كإسرائيل وتركيا، يحضِّر للاستثمار في الفراغ الذي ستخلِّفه الانسحابات الأميركية من بعض المواقع. ولكن، خلافاً لذلك، يسيطر القلق على المجموعات الصغيرة التي تتلقّى دعم الولايات المتحدة وحمايتها، في العراق وسوريا ولبنان، خوفاً من أن تذهب ضحيةً للصفقة الكبرى. وهذه المجموعات هي:

 

1- أكرادُ العراق وسوريا الذين يخشون انتقام تركيا وسيطرتها على مناطقهم أو تهجيرهم بعد الانسحاب الأميركي.

2- السُنّة المعارضون للنظام في سوريا.

3- خصوم إيران و«حزب الله» في لبنان.

 

فهل ستترك الولايات المتحدة هذه المجموعات ضحية لنفوذ إيران وتركيا، كما تركت حلفاءها في أفغانستان ضحية لطالبان؟

 

المؤيّدون لنهج بايدن يحذّرون من التسرُّع في هذا المجال، ويطمئنون إلى أنّه لن يسلّم لبنان وسوريا إلى إيران كما يتصوَّر البعض. فالبلدان مهمان استراتيجياً للولايات المتحدة.

 

وأما الأكراد، فقد كان بايدن أول المُطالبين بحقهم في تقرير المصير، عندما كان نائباً لأوباما. وهو الذي طرح تقسيم العراق إلى 3 فدراليات، إحداها للأكراد. ولذلك، هو لن يسلّمهم لقمة سائغة إلى تركيا.

 

وفي تقدير هؤلاء، أنّ الأوروبيين من جهتهم لن يسهّلوا سيطرة إيران على الشواطئ الشرقية للمتوسط. كما أنّ إسرائيل لن توافق على تثبيت النفوذ الإيراني على حدودها. وفي الخلاصة، يمكن للولايات المتحدة أن تمرّر تسويات مرحلية مع إيران، لكنها لن تسمح لها ببسط سيطرتها على لبنان وسوريا.

 

ولكن، هل يقود الإنسحاب الأميركي من العراق وسوريا إلى اندلاع الصراع الدفين بين الأقوياء على رقعة الشرق الأوسط العربي، ما يقود فعلاً إلى تعديل خرائط النفوذ فيه، وربما إعادة رسم الكيانات؟

 

هناك معطيات تبرِّر طرح هذا السؤال:

1- تركيا في وضعية الترصُّد، وثمة حديث عن نيّتها قضم الأراضي التي تسيطر عليها في الشمال السوري، تدريجاً، بعد تكريس الأمر الواقع.

2- إيران ستقاتل «بأسنانها» للاحتفاظ بجسر إمداداتها عبر العراق إلى سوريا فلبنان. فالحُكم في بغداد صديقها، وفي دمشق حليفها، وفي بيروت مُوالٍ لها.

3- روسيا لن تتخلّى عن حضورها الاستراتيجي في سوريا ولا عن رعايتها نظام الرئيس بشار الأسد وترتيب مستقبله في الداخل، ومستقبل علاقاته مع القوى الإقليمية، بما فيها إسرائيل.

4- إسرائيل ستقاتل لتبقى وحدها قوة إقليمية عظمى في المدى الحيوي لأمنها الاستراتيجي.

 

هذه التشابكات بين مصالح القوى الـ4 قد تقود إلى صفقات سياسية، ولكن أيضاً إلى مواجهات ساخنة على جبهات عدة. وفي الحالين، سيكون مهدّداً مستقبل الكيانات المستهدفة. واللافت أنّ العرب، بسبب انقساماتهم، ليسوا بين اللاعبين الجالسين إلى الطاولة، بل هم المادة التي سيجري تقاسمها على هذه الطاولة.

 

وثمة مَن يقول إنّ مصير الكيان السوري- كمصير الكيان اللبناني- لم يُحسَم بعد. وعلى الأرجح سيرتسم مستقبل الكيانين في آن معاً. وسيكون دور الأسد رهناً بما سيقدِّمه من تنازلات في الصفقات الآتية. فهو يدرك أنّ لا شيء مجانياً في عالم السياسة والمصالح.