بسيط وواضح ويتيح مشاركة الشركات الصغيرة… لكنّ العبرة بالتنفيذ
سيكون اللبنانيّون أمام فرصة استئناف المعاينة الميكانيكية مجدّداً خلال الأشهر المقبلة، إذا ما صدقت النيات فعلاً بإنجاز صفقة تلزيم مراكزها القائمة، في أسرع وقت ممكن، كما أعلن وزير الداخلية بسام المولوي الأسبوع الماضي. إلا أنّ ذلك لن يترافق بالضرورة مع انتهاء معاناة المواطنين على أبواب هذه المراكز وفي باحاتها، ما لم يندرج من ضمن خطة عمل متكاملة لتنظيم تقاطر السيارات إلى هذه المراكز، مقابل تعاون المواطنين في الالتزام بالمواعيد المحددة للمعاينات الميكانيكية وفقاً للجداول التي تصدر عادة. وبخلاف ذلك، يتوقّع أن يتكرّر مشهد حرق الأعصاب مع الوقت الضائع في هذه المراكز، خصوصاً أنّ المناقصة الجديدة التي يرتقب إطلاقها اليوم من خلال نشر دفتر شروطها والإعلان عن مواعيد فضّ العروض عبر موقع هيئة الشراء العام، تعود إلى نقطة البداية في تأسيس هذه المراكز قبل نحو عشرين عاماً، والمحددة بأربعة فقط على مختلف الأراضي اللبنانية.
في المقابل، تبدو ظروف إنجاز عملية التلزيم الجديدة أقل تعقيداً من المرّات السابقة. وليس ذلك فقط لكون شركة «فال» التي استحكمت بالقطاع لنحو عشرين سنة واتّهمت بعرقلة مشاريع تلزيمه سابقاً، هي موضع ملاحقة قضائية بقرار صدر العام الماضي عن وزير الداخلية، وقد تضمّن أيضاً وقف إلزامية هذه المعاينة حتى إشعار آخر، إنما لكون دفتر شروط المناقصة المقبلة يؤمّن مشاركة الشركات الصغيرة والمتوسطة الراغبة بإدارة هذا القطاع، وبالتالي يفترض أن يوقف صراع «الحيتان» على هذه الصفقة، كما حصل في المرّات السابقة، ويفتح باب المنافسة.
في محاولة للحصول على مزيد من الإيضاحات حول المناقصة التي أعلن عنها وزير الداخلية، يلفت رئيس هيئة الشراء العام الدكتور جان العلية الى كون شروط المناقصة المقبلة باتت «أبسط، أسلس وأوضح». ويدل موضوع المناقصة التي ستطلق اليوم على حجم إختلافها عن آخر مناقصة جرى الطعن بنتائجها. إذ حدّدت وظيفة الملتزم لمدة ثلاث سنوات بـ»إدارة وصيانة وتشغيل المحطات القائمة». بمعنى آخر، فإنّ الملتزم الجديد لن يتحمّل مسؤولية بناء محطات جديدة أو زيادة أعداد المراكز القائمة حالياً. وهذا ما يشكّل نسفاً كلّياً لمضمون المناقصة التي أصدر مجلس شورى الدولة قراراً بإبطال نتائجها في أيلول 2018، والتي كانت تتضمّن «تطوير، وتشغيل المحطات الموجودة للمعاينة، والكشف الميكانيكي للمركبات الآلية في لبنان» إلى جانب «أعمال تصميم وبناء وتجهيز وتشغيل محطات جديدة على طريقة الـ BOT التي تضمن إنتقالها الى الدولة».
وتكمن الأهمية في إبعاد الملفّ عن سمسرات الدخول بمشاريع البناء وإستحداث المراكز، بعدما أقرّ دفتر الشروط بعدم وجوب الجمع بين صفقتين في إلتزام واحد. فالتشغيل والصيانة والإدارة صفقة، والبناء وزيادة أعداد المراكز صفقة أخرى.
تشغيل مركز أو أكثر
إلا أنّ هذه النقطة ليست وحدها ما يتيح فرصة مشاركة للشركات الصغيرة والمتوسطة في المناقصة المقبلة، وإنما أيضاً ما نصّ عليه دفتر الشروط حول إمكانية تقدم العارض بعرض تشغيل لمركز واحد من المراكز الأربعة أو مركزين أو أكثر، وهذا ما يمكن أن يخلق تنافساً أكبر، بحسب المصادر، ويؤمّن تعدّدية الجهات الملتزمة لتشغيل القطاع، ويؤمّن بالتالي تنافساً بين إدارات المراكز على تقديم الخدمة الأفضل للمواطنين.
وتعدّد الملتزمين هنا لا يعني تعدّد بدل المعاينة، إذ إنّ دفتر الشروط يحدّد التلزيم على أساس السعر الإجمالي الأدنى، آخذاً في الإعتبار المعّدل العام لعدد المعاينات المتوقّع سنوياً طبقاً لتجارب السنوات الماضية، لمقارنته بسعر تقديري لهذه الخدمة. فيتحدّد السعر الإجمالي من خلال ضرب عدد المعاينات المتوقّع بالسعر التقديري، ويتم إختيار العرض الأفضل، أي الذي يقدّم السعر الأدنى.
في المقابل، فإنّ الفائز بالمناقصة، لن يستوفي الرسوم من المواطنين مباشرة، ولن تكون له صلاحية تحديد قيمتها، بل تسدّد مستحقاته من قبل الدولة اللبنانية التي تستوفي الرسوم من المواطن لمصلحتها، على أن يحدّد هذا البدل بموجب قانون شامل تطبّق أحكامه على جميع الأراضي اللبنانية بالمساواة. وهذا ما ترى المصادر أنه يمنع الإستنسابية في تحديد بدل المعاينة، وصولاً إلى دعم هذه الخدمة لاحقاً، إذا ما عرف لبنان أيام بحبوحة مجدّداً، وذلك للإقتراب أكثر من تحقيق الأهداف التي وضعت من أجلها هذه المعاينة بالأساس.
الأخذ بملاحظات هيئة الشراء العام
في المقابل، تكشف مصادر في هيئة الشراء العام أن لا إشكالية قانونية حول الدعوة للمناقصة من قبل هيئة إدارة سير المركبات في وزارة الداخلية، نتيجة لتعديلات قانون الشراء العام. ومع أنّ القانون أتاح لوزارة الداخلية وهيئة إدارة السير اجراء المناقصة حتى من دون إطلاع الهيئة على دفتر شروطها، مقابل الرقابة التي تمارسها الأخيرة على عملية التلزيم ونتائجها، إلا أنّ وزير الداخلية وفقاً للمصادر أبدى ليونة كبيرة في هذا المجال، مصرّاً على الأخذ بملاحظات الهيئة قبل إطلاق دفتر الشروط بصيغته النهائية.
هذا مع العلم أنّ رأي هيئة إدارة المناقصات، كان له التأثير في قرار مجلس شورى الدولة الذي أبطل نتيجة مناقصة العام 2016، حيث اعتبر حينها أنّ «هيئة إدارة السير هي مؤسسة عامة متفرّعة من وزارة الداخلية، ولا يدخل في صلاحياتها المحدّدة بالمراسيم إجراء المناقصة المتعلقة بدفتر الشروط».
وكانت المراجعات القضائية التي أعقبت المناقصة الماضية، إحدى العوامل التي ساهمت باستمرار شركة «فال» بإدارة القطاع حتى العام الماضي من دون أي مسوغ قانوني. إذ إنّ القرار الذي صدر عن مجلس شورى الدولة بإبطال نتائج المناقصة التي رست في حينه على تحالف شركات SGS، أبقى الحال «لا معلّقاً ولا مطلقاً». فلا تحالف شركة SGS تسلّم القطاع وسط الإشكالية القانونية التي أثارها توقيع العقد من قبل هيئة إدارة السير، ولا «فال» انسحبت من الإدارة… إلى أن قامت الشركة برفع بدل الكشف الميكانيكي بشكل فردي ومن دون الرجوع إلى سلطة الرقابة الرسمية، فكان قرار وزير الداخلية حينها بإلغاء المعاينة الميكانيكية وتحويل الشركة إلى القضاء المختصّ…
والواقع أنّ قصة «فال» مع تمدّد المهل القانونية لإدارة المؤسسات التي تخضع لقوانين المرفق العام، تشبه إلى حدّ بعيد قصص معظم الإلتزامات التي فشلت الدولة اللبنانية في الإلتزام بمهلها الزمنية، فتحوّلت عقودها الأولى عقوداً أزلية بموجب قرارات متكرّرة بالتمديد، ما جعل من خصخصة بعض الخدمات سبباً آخر لعذابات اللبنانيين بدلاً من أن تسهم بتسيير امورهم.
العقد منتهٍ منذ 2012
فعقد شركة «فال» انتهى عملياً في سنة 2012، وكان يفترض خلال فترة الإلتزام التي استمرّت نحو سنة إضافية قبل التمديد الأول لها، أن يتمّ التحضير لإطلاق مناقصة تلزيم جديدة. إلا أن مجلس الوزراء قرّر بدلاً منذ ذلك تمديد العقد «بصورة موقتة» لمدّة ستة أشهر، لتكرّ سبحة التمديدات في 27 آذار 2014 ثم في 19 تشرين الأول 2014، حيث انتهى التمديد الأخير بتجديد آخر لعقد الشركة لمدة ثلاثة أشهر. إلا أنها استمرّت لمرحلة أطول، تمّ خلالها إعداد دفتر شروط لإطلاق مناقصة جديدة لتلزيم القطاع.
ولكن المفاجأة كانت بفضيحة مدوية أفضت إلى تأجيل المناقصة بعدما أدخلت هيئة إدارة السير تعديلات على دفتر الشروط، لم تُطلع عليها مجلس الوزراء الذي كان أعدّ الدفتر الأول، الأمر الذي رأت فيه الشركات العارضة المعترضة على التعديلات، أنه سيقصي شركات بمقابل تعزيز فرص آخرين، فتّم تأجيل المناقصة من قبل هيئة الشراء العام بناء لإحالة من قضاء العجلة في مجلس شورى الدولة أوجبت حذف الشروط المضافة.
وعليه، ألغيت المناقصة قبل يوم من انتهاء الموعد المحدّد لانتهاء مهلة تقديم العروض وأعيد دفتر الشروط إلى وزير الداخلية. واستمرت «فال» بتشغيل القطاع، إلى أن أجريت المناقصة الأولى في 6 نيسان 2016، أي بعد أربع سنوات من انتهاء عقد «فال». ولكن صدور قرار الموافقة على نتيجة المناقصة من قبل مجلس إدارة هيئة إدارة السير والمركبات الآلية في 4 أيلول من العام 2016، وقبولها بالمفاضلة المقدّمة من تجمّع شركات SGS (بقيمة 44.012 مليون دولار سنوياً، على فترة 10 سنوات، أي بمبلغ إجمالي قيمته 441.2 مليون دولار)، وتوقيعها العقد معها، شكّل أحد أبرز المخالفات التي دفعت بثلاثة مشاركين في المناقصة لتقديم مراجعة لمجلس شورى الدولة. وقد بنيت هذه المراجعة على عدم جواز توقيع العقد من قبل هيئة إدارة السير، فيما الدولة هي صاحبة المشروع التي أطلقت المناقصة. فأبطل المجلس قرار هيئة ادارة السير في 9 تموز 2018 ما حال دون تسلّم SGS المهمّات في الفترة اللاحقة. منذ ذلك التاريخ بقيت «فال» تدير القطاع وسط تحرّكات إحتجاجية رافقت مسيرتها اللاحقة، وخصوصاً إثر انطلاق ثورة تشرين 2019 التي حاولت إلقاء الضوء على مكامن الهدر والفساد، إلى أن اتّخذ قرار إلغاء المعاينة الميكانيكية منذ أيار العام الماضي، ليعود إطلاقها مع دفتر شروط جديد في الشهر الحالي. فهل تكون هذه العودة من نقطة الصفر مقدّمة لإعادة تنظيم القطاع بما يضمن تحقيق نتائجه البيئية والتنظيمية لقطاع السير؟ أم أنّه يشكّل إستعادة لكل المساوئ التي شابت عملية تشغيل القطاع في المرحلة الماضية؟
بحسب هيئة الشراء العام، دفتر الشروط الموضوع جيد، وإنّما العبرة تبقى بالتنفيذ.