Site icon IMLebanon

الآلية.. والدستور

تحسَّب الدستور اللبناني، منذ وضعه العام 1926، لحالة شغور منصب رئيس الجمهورية أو – كما ورد في المادة 62 – لحالة «خلو سدَّة الرئاسة»، فنص، منعاً للفراغ، على أن صلاحيات الرئيس تُناط عندئذ، وكالةً، بمجلس الوزراء.

قبل تعديل الدستور تبعاً لاتفاق الطائف، أي عندما كانت السلطة الإجرائية بيد رئيس الجمهورية، كان الدستور ينصّ على ان السلطة الإجرائية، وليس فقط صلاحيات الرئيس، تُناط وكالة بمجلس الوزراء.

إلا أن الدستور لم يتحسَّب، لا قبل الطائف ولا بعده، للحالة التي يطول فيها الشغور، ولم ينظم بالتالي تفاصيل هذه الحالة التي بات يُخشى، بعد أن تكررت أكثر من مرة، أن تُصبح هي القاعدة في الممارسة السياسية.

وبالفعل،

فقد اقتضى أكثر من 13 شهراً لانتخاب خلف للرئيس أمين الجميل العام 1989، وأكثر من ثمانية أشهر لانتخاب خلف للرئيس إميل لحود العام 2008. وقد انقضت حتى الآن تسعة أشهر منذ انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان في 25 أيار 2014 من دون انتخاب رئيس جديد.

في النظام الطائفي المعتمد في لبنان وفي توزيع الرئاسات الثلاث، عرفاً، بين الطوائف، أن شغور موقع الرئاسة يحدث خللاً في تركيبة السلطة الطائفية تتأثر وتشكو منه، بصورة خاصة، الطائفة المارونية. لذلك فإن الرئيس بشارة الخوري عمد، عند استقالته العام 1952، الى تكليف ماروني، هو العماد فؤاد شهاب، لرئاسة الحكومة خلال الفترة الانتقالية. لذلك أيضاً عيَّن الرئيس امين الجميل مارونياً، هو العماد ميشال عون، لرئاسة الحكومة عشية انتهاء ولايته العام 1988 من دون انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

حصل ذلك عندما كانت صلاحيات رئيس الجمهورية تسمح له بأن يختار رئيس الحكومة، بإرادته المنفردة. أما بعد اتفاق الطائف، أي بعد أن أصبحت تسمية الشخص المكلف بتأليف الحكومة مرتبطة بنتيجة الاستشارات النيابية الملزمة، فإن التركيز أصبح على الآلية التي ينبغي أن يعتمدها مجلس الوزراء، في حال شغور منصب الرئاسة، عند ممارسة الصلاحيات الجديدة التي انتقلت اليه.

كانت أولى التجارب في هذا المجال عندما غادر الرئيس إميل لحود قصر بعبدا منتصف ليل 22 تشرين الثاني 2007 وسلَّم مفاتيح القصر الى الحرس الجمهوري بعد أن كلَّف الجيش حفظ الأمن، لأن الحكومة أصبحت منذ استقالة الوزراء الشيعة منها – حسبما ورد في البيان الرئاسي – تفتقر الى الشرعية الميثاقية والدستورية.

يومئذ بادر رئيس الحكومة، الرئيس فؤاد السنيورة، إلى زيارة بكركي لإبلاغ الكاردينال البطريرك نصرالله صفير تعهداً بحماية موقع الرئاسة وبذل الجهد لتقصير المرحلة الانتقالية ما أمكن، وفي هذه الأثناء للتأكيد على ان صلاحيات رئيس الجمهورية لا تُناط بشخص واحد بل بمجلس الوزراء الذي كان يتألف من 17 عضواً.

وقد اعتمدت الحكومة التوافق كقاعدة لعملها، في ظل الانقسام المحموم الذي كان سائداً في تلك الفترة والذي تجسَّد بمحاصرة السرايا الحكومي من قبل المعارضة لأشهر طويلة.

كانت الحكومة خلال تلك الفترة تعقد جلسات خاصة لممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية بالوكالة. وقد حدث في أولى هذه الجلسات أن أقرت الحكومة مرسوماً بفتح دورة استثنائية لمجلس النواب ووافقت على مشروع قانون بتعديل المادة 49 من الدستور لانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية.

كما حدث في جلسة أخرى عُقدت في 28/12/2007 أن أقرَّت الحكومة ما يقارب 700 مرسوم، دفعة واحدة، كانت عالقة منذ ولاية الرئيس إميل لحود. وقد اعتمدت الحكومة يومئذ قاعدة توقيع المراسيم من قبل جميع أعضائها، باستثناء المستقيلين منهم.

أما حكومة الرئيس تمام سلام، فقد توصَّلت بعد مخاض طويل اقتضى عقد أربع جلسات تشاورية الى وضع آلية لكيفية تعاملها مع صلاحيات الرئيس التي انتقلت اليها، اختصرها رئيسها بعد جلسة 26 حزيران 2014 بالآتي:

– ضرورة التوافق على كل المسائل وإرجاء ما يمكن ان يُشكِّل خلافاً او اختلافاً.

– أن كل شيء سوف يُقر بالتوافق من دون الوصول الى التصويت.

– يوقِّع الوزراء على المراسيم إذا أرادوا أو يُكتفى بتوقيع ممثلي الكتل السياسية في الحكومة، لا سيما أن القرارات كلها تصدر بموافقة كل الوزراء.

وقد درجت الحكومة على إصدار المراسيم حاملة تواقيع 23 وزيراً بالإضافة الى رئيس الحكومة.

وفي الوقت ذاته تمشَّت رئاسة الحكومة على إبلاغ الوزراء جميعاً جدول أعمال الجلسات قبل 96 ساعة من موعد انعقادها تقيداً بالنص الدستوري الذي يلحظ اطلاع رئيس الجمهورية مسبقاً على المواضيع التي يتضمّنها الجدول.

تم التوصل الى هذه التسوية بداعي الحفاظ على مقام رئاسة الجمهورية وبحجة انها تحول دون الاعتياد على الشغور في موقع الرئاسة واعتباره أمراً طبيعياً، وتسرِّع عملية انتخاب رئيس جديد.

إن هذه الاعتبارات، على أهميتها، لا يمكن ان تحجب ما تنطوي عليه الآلية المعتمدة من تجاهل لبعض أحكام الدستور ومن مخالفة لبعضها الآخر.

وبالفعل،

فإن مجلس الوزراء كأحد أجهزة السلطة الإجرائية التي نص عليها الدستور يمارس عمله ويقوم بالمهام الموكلة اليه في المادة 65 من الدستور وفقاً لآلية واضحة، سواء لجهة النصاب القانوني لانعقاده ام لجهة كيفية اتخاذ قراراته.

إن هذه المهام وتلك الآلية لا يجوز أن تتأثرا بغياب الرئيس الذي يعود له، لو لم يكن ثمة شغور، أن يترأس مجلس الوزراء، عندما يحضر، من دون أن يشارك في التصويت.

لذلك، فإن اشتراط الإجماع لاتخاذ أي قرار في مجلس الوزراء بحجة أن كل وزير يقوم، بالوكالة، بجزء من مهام رئيس الجمهورية، يعني إشراك رئيس الجمهورية في اتخاذ قرارات مجلس الوزراء. وبعبارة أخرى، فإنه يؤدي عملياً الى إعطاء رئاسة الجمهورية، في حال شغور المنصب، أكثر من الصلاحيات المعطاة لرئيس الجمهورية عند وجوده.

إن الممارسة الصحيحة لصلاحيات رئيس الجمهورية من قبل مجلس الوزراء تنطلق، بالدرجة الأولى، من قاعدة عدم الخلط بين ممارسة مجلس الوزراء لهذه الصلاحيات من جهة، وبين عمل مجلس الوزراء كمؤسسة دستورية من جهة أخرى، الذي يجب أن يبقى كما هو من دون تعديل، سواء أكان رئيس الجمهورية موجوداً أم كان منصبه شاغراً.

وبعبارة أوضح، إن مجلس الوزراء، بغياب الرئيس، تُصبح له صفة إضافية هي صفة الوكيل في ممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية، إلا ان هذه الصفة الجديدة لا تُفقده، ولا تنفي عنه، صفته الأساسية كمؤسسة أناط بها الدستور السلطة الإجرائية وعيَّن لها مهامها وحدد كيفية قيامها بهذه المهام، تسييراً لشؤون الدولة وتأميناً لمصالح المواطنين.

كذلك بالنسبة لصلاحية رئيس الحكومة التي نص عليها الدستور في وضع جدول أعمال مجلس الوزراء، على أن يُطلع رئيس الجمهورية مسبقاً على المواضيع التي يتضمنها. إن اطلاع الرئيس مسبقاً على جدول الأعمال يتيح له مناقشة جدوى إدراج بند من بنوده مع رئيس الحكومة، إلا أن ذلك لم يرتق، في الممارسة الفعلية منذ الطائف، إلى درجة إشراك رئيس الجمهورية في وضع الجدول، لا سيما أن الدستور حفظ له الحق بعرض أي امر من الأمور الطارئة على مجلس الوزراء من خارج الجدول.

إن إعطاء كل وزير، بغياب الرئيس، حق الاعتراض على أحد مواضيع جدول الأعمال هو بمثابة إشراكه في وضع جدول الأعمال، أي إعطاء كل وزير أكثر من الصلاحيات الممنوحة في الدستور لرئيس الجمهورية نفسه.

لذلك فإن القاعدة الثانية لممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية في حالة الشغور هي أن هذه الممارسة ينبغي أن لا تؤدي، من جهة، إلى الانتقاص من الصلاحيات العائدة للرئيس، كما ينبغي، من جهة أخرى، أن لا تؤدي الى اعطاء الوكيل من الصلاحيات اكثر مما للأصيل في الدستور.

أما القاعدة الثالثة والأخيرة فهي تنطلق من أن الدستور ينقل صلاحيات الرئيس، في حالة الشغور، الى هيئة دستورية، هي مجلس الوزراء، وليس الى مجموعة أفراد هم الوزراء الذين يتألف منهم مجلس الوزراء.

ومتى تنتقل الصلاحيات الى هيئة دستورية، فإن الهيئة تمارس هذه الصلاحيات وفقاً للنظام الذي تخضع له، لاسيما اذا كان هذا النظام منصوصاً عليه في الدستور.

فكما انه لا يمكن تصور أن ينعقد مجلس الوزراء الممارس لصلاحيات رئيس الجمهورية بنصاب يقل عن نصاب الثلثين الملحوظ في الدستور، كذلك الأمر بالنسبة لكيفية اتخاذ قرارات المجلس: أي بالتوافق أولاً، وفي حال تعذره، بالتصويت بالأكثرية العادية أو بالأكثرية الموصوفة (أي الثلثين) في الأمور المعدّدة في المادة 65 من الدستور.

إن القول بخلاف ذلك يفتح الباب واسعاً أمام اجتهادات مختلفة تؤدي كلها الى تجزئة الهيئة التي انتقلت الصلاحيات إليها وكأن الدستور نقل صلاحيات الرئيس الى الوزراء إفرادياً وليس الى مجلس الوزراء الذي يتألف منهم.

من البديهي القول إن حل الإشكالات الناجمة عن الفراغ في سدة الرئاسة، بصورة جذرية، لا يمكن ان يتم الا بانتخاب الرئيس العتيد. ذلك ان ثمة صلاحيات للرئيس، سيادية بطبيعتها او لصيقة بشخصه، لا مجال لتعدادها هنا، لا يمكن انتقالها الى غيره.

ولعل أصعب ما يمكن تصوره من هذه الصلاحيات هي صلاحية إجراء الاستشارات النيابية الملزمة في حال استقالة الحكومة الحاضرة، او في حال اعتبارها مستقيلة، كما لو فقدت أكثر من ثلث أعضائها او استقال رئيسها. فهل يُعقل أن تُجري الاستشارات مع النواب لاختيار الرئيس المكلَّف حكومة تقوم بتصريف الاعمال، مبتورة باستقالة رئيسها او استقالة عدد كبير من اعضائها؟

وقد تكون هذه الصعوبة بالذات من أهم أسباب ديمومة الحكومة الحاضرة، بالرغم من كل ما عبَّر عنه رئيسها من تذمّر وشكوى، وذلك إلى حين أن يتمّ التوافق على انتخاب رئيس جديد للجمهورية.