Site icon IMLebanon

عن الكاتب الآفل والوزير الغافل … والاعلام النظيف

مصطلحان مهمّان اغتنى بهما قاموسنا النقدي والفكري في يوم واحد. الأوّل استنبطه إلياس خوري الذي استعمل بالأمس عبارة «وطن الجريدة الواحدة»، في مقالة بعنوان «الصحافة اللبنانيّة في زمن الأفول» («القدس العربي»، 10 كانون الثاني/ يناير 2017).

والثاني تفتّق عنه ذهن وزير الاعلام السعودي، الدكتور عادل الطريفي الذي تغنّى بـ «الاعلام المهني». كان الرجلان يتطرّقان، من موقعين ومكانين مختلفين، إلى الاعلام اللبناني: الكاتب «الثوري»، يرثي لحاله ويشخّص أسباب انهياره، والوزير «التنويري»، يلوّح بعصاه السحريّة واعداً بـ «انبعاثه» القريب.

وعلى الرغم من تشاؤم إلياس خوري الذي يرى النهاية في كل مكان (لقد انتهى زمن الاحلام الكبيرة، نهاية حقبة كاملة في تاريخ الصحافة اللبنانية، أفول بيروت، الخراب العربي الشامل…)، وتفاؤل معالي الدكتور الطريفي الذي ينظر إلى المستقبل برؤية شابة، رومنسيّة (استعادة الدور المحوري، اسئناف النشاط…)، فإنهما يلتقيان بقوّة حول الفلسفة نفسها في تصنيف الاعلام اللبناني: هناك إعلام الانحطاط والظلاميّة من جهة، وترمز إليه، حسب الرفيق إلياس، الجريدة الوحيدة الباقية في لبنان («الأخبار» طبعاً) ـــ تلك التي كان يجب أن تموت تحديداً، يا لسخرية القدر، يكاد ينتحب! ـــ وإعلام النهضة الآتية، الاعلام الجيّد، الاعلام النظيف، الاعلام «المهني» الذي يحوز رضى الوزير السعودي، ويستحصل منه على براءة ذمّة. وهذا «الاعلام» اللايت، المعقّم، بعد عمليّة فحص دقيقة، تؤكد أنّه مطابق لمعايير الجودة التي يتميّز بها الاعلام السعودي، كما نعرف جميعاً، فإن خيرات «مملكة الخير» ستتدفّق عليه مجدّداً، فيشهد عزّاً بعد فاقة… ولا يعود لبنان بأفضاله «وطن الجريدة الواحدة»!

الطريف في مناحة إلياس خوري الذي يتفجّع على انحسار دور بيروت وانهيار صحافتها، أنّه، كشأنه دائماً في السنوات الأخيرة، يتحدّث عن الأشياء كأنّه يقف خارجها. «فلسطين» مثلاً، جعلها شعاراً أجوف و«مفهوماً» لفظيّاً، بدلاً من أن تكون بوصلة لكل الخيارات، ومعركة تخاض يومياً، وعلى كل الجبهات. لذا نحار أين نصنّفه: أفي خانة الفنانين المعاصرين المفهومييّن، أم المحاربين القدامى الذين تغيّر الزمن فلم ينتبهوا، المحاربين المستقيلين الذين استحالوا سياحاً أو خبراء أو حتّى مخبرين؟ وفي هذا النقاش عن أزمة الصحافة اللبنانيّة، لا يبدو لحظة واحدة معنيّاً بمئات من زملائه السابقين المهدّدين، أو المرميين الآن على قارعة إعلام صنع مجد الأستاذ إلياس ونجوميّته ذات مرحلة مباركة.

إلياس خوري وعادل الطريفي حليفان موضوعيّان، يلتقيان عند كره الاعلام النقدي، التقدمي، التنويري، المقاوم

ألهذا تراه أسير الزمن السعيد، يستحضر الحركة الوطنيّة وكمال جنبلاط. وجميل أنّ هذا المحارب السابق (لشهرين) في «الكتيبة الطلابية» مع تنظيم فتح، لم يذكر هذه المرّة أيضاً أبا جهاد. فهو لا يريد أن يعترف بأن أشكال الصراع وأدواته وعناصره تغيّرت، وأن من أحب أبا جهاد بالأمس، لا يمكن إلا أن ينحني اليوم أمام مصطفى بدر الدين وعماد مغنيّة، بدلاً من أبلسة حزبهما بطريقة استرزاقيّة رخيصة. نعم، مصالحه الأيديولوجيّة والتسويقيّة لم تعد في هذا الخندق. لكن الشعار، ما زال عملة رائجة للاستهلاك.

يتذكّر إلياس خوري ما يناسبه من الماضي، وينسى ما لا يناسبه. «السفير» التي يتلذذ بمعاينة موتها، هي التي صنعته، ولم تزعجه يومذاك «البنية الحِرَفيّة الفرديّة التي قد تتخذ شكلاً بطريركياً». «النهار» التي لم يغادرها إلا مطروداً، رغم خدماته الأيديولوجيّة الجليلة، يتشفّى بها الآن، ناسياً كم استفاد من موقعه فيها، حتى صار شيشرون «ربيع بيروت» المزعوم. ولم ينتبه يومذاك إلى «مال النفط»، ولا أزعجته أفضال «الاقتصاد النيوليبرالي الذي أسسته الحريريّة». هل «انتهى زمن الاحلام الكبيرة» أنكل إلياس؟ بالنسبة إليك ربّما، لكنّك تعيش زمن المصالح الضيّقة، والنجاحات الفرديّة على حساب «بطولات» الماضي، وعلى حساب القضايا الكبرى… هكذا وببساطة، يظنّ الكاتب «الثوري» أنّه يستطيع أن ينسينا أنّه أحد الشركاء في «الخراب العربي الشامل» الذي «يزيحنا» به.

لا يعني «الرفيق التائب» من أزمة الصحافة سوى النعيق فوق الخراب، ونهش جثّة الميت. لا يهمّه إلا دس سمومه الايديولوجيّة، عبر اختزال الواقع وتزويره. كأنّه لم يكن شريكاً في هذه اللعبة الشيطانيّة التي قادتنا إلى المأزق. كأنّه غير معني إلا بالنقاش الأيديولوجي الخارجي، لا بالعواقب على الأرض وآفاق التجاوز. لماذا نشعر أن إلياس خوري يتلذذ في سرّه بانهيار الصحافة اللبنانيّة، فيما يتظاهر بالتحسّر عليها؟ إنّّها آخر همّه في كل الأحوال، فهو ينظر إليها من خارجها. كما انّه لم يعد يحتاجها، لأن مصالحه وطموحاته في مكان آخر. لديه «هآرتز» إذا احتاج إلى إيصال أفكاره الثوريّة، ولديه مكتبة Pomogranate حيث يستقبله عوديد هلاحمي إذا أراد أن يطلق ترجمة لإحدى رواياته («الأخبار»، ٢٣/ ٦/ ٢٠١٦ )، ولديه منبره الأسبوعي في جريدة قطريّة هي نموذج للاعلام المستقل والتنويري طبعاً. إذا كان يبدو له أن لبنان صار «وطن الجريدة الواحدة»، فذلك لأنّه مصاب بعقدة «الأخبار» التي تعرف ألاعيبه ومع ذلك تفيه حق قدره أديباً، لكنّه ينسى كل الصحف الموجودة. لا يرى مثلاً، بسبب نرجسيّته الحادة وكرهه لذاته وماضيه، أن مجموعة من أبرز صحافيي «السفير» تنطلق في مغامرة تأسيس صحيفة جديدة ننتظرها بفارغ الصبر. وأن بيروت التي استقال من دوره فيها كمثقّف فاعل، تزهر بألف مشروع سياسي بديل، وأنّها لا محالة ستتمخّض عن تجارب صحافيّة جديدة. ماذا لو أن إلياس خوري في نهاية الأمر يعترف، في لاوعيه، بأفوله «هو» مع تلك المرحلة التي «حلبها»، ومع أكاذيبها الأيديولوجية وأنماط إنتاجها الطفيليّة؟

بهذا المعنى فإن إلياس خوري وعادل الطريفي حليفان موضوعيّان. الكاتب «الثوري» والوزير «التنويري» يختلفان حول تشخيص مستقبل بيروت بين أفول وانبعاث، لكنّهما يلتقيان عند كره «الأخبار» وأخواتها في الاعلام النقدي، التقدمي، التنويري، الذي اختار موقعه إلى جانب المقاومة، ضد الصهيونيّة ورجعيّات المنطقة مهد الطاعون التكفيري. وهذا فحوى مقالة إلياس خوري الأخيرة، وخلاصة تصريح الوزير السعودي بعد لقاء نظيره اللبناني ملحم رياشي على هامش زيارة رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون إلى المملكة العربية السعوديّة. إلياس خوري وعادل الطريفي، رفيقا الخندق الواحد ضدّ «تحويل لبنان الى ساحة مواجهة في خدمة مشروع سياسي إيراني ـــ سوري». والوزير عادل الطريفي «حامل شهادة الدكتوراه مع درجة الشرف الأولى في العلاقات الدوليّة» اختصاصه العلاقات السعوديّة ـــ الإيرانيّة (في حوار مع «سكاي نيوز» يؤكّد بالدليل القاطع أن إيران بلد متخلّف ومجتمع متخلخل متفكك). وهذا الدكتور يظنّ بكل ثقة أنّه يستطيع «انعاش» الاعلام اللبناني. بعد أن يحدد طبعاً «وسائل الاعلام ذات الالتزام المهني الكبير». لا تقولوا لمعالي الدكتور إن المال السياسي، والمال الخليجي تحديداً، وراء انهيار الصحافة اللبنانيّة وخرابها. لا تقولوا للرفيق إلياس خوري إن «الأخبار» حصرمة في عينه، لكنّها ليست الوحيدة، فالصحافة اللبنانيّة ستعيد بناء نفسها، بأنماط مهنيّة وانتاجيّة صحيّة تقف على الموقع النقيض لكل زعبراته «الثوريّة» الجوفاء!