Site icon IMLebanon

حدث إعلاميّ لا سياسيّ

 

بمبادرة من صحيفة «بوسطن غلوب» قرّر 300 منبر إعلاميّ أميركيّ أن يردّ ردّاً موحّداً ومنسّقاً على دونالد ترامب. لقد هاجم «حرب ترامب القذرة» على الإعلام وتسميته الإعلاميّين «أعداء الشعب». وهو لم يُبد فحسب الخوف على الديموقراطيّة وعلى المادّة الأولى من الدستور التي تضمن حرّيّة الصحافة، بل ذهب أبعد، فعبّر عن الخوف على الحياة الشخصيّة للصحافيّين والعاملين في الإعلام. ذاك أنّ المستعدّين لتحويل الكلام الترامبيّ إلى واقع كثيرون بين المهووسين بترامب. وقد سبق، في هذا المناخ من استضعاف الصحافة، أن أقدم أحدهم على استهداف جريدة «كابيتال غازيت» في أنابوليس بولاية ميريلاند في نهاية حزيران (يونيو) الماضي. الاعتداء ذاك أودى بحياة 5 أشخاص.

 

 

جريمة ميريلاند لم يكن سببها «سياسيّاً» على الأرجح، لكنّ جريمة مماثلة، يكون سببها سياسيّاً، قابلة للحدوث في ظلّ الهجاء الترامبيّ المسنود ضمناً بتقليد شعبويّ عريق، يقيم في اليمين كما في اليسار، ويناهض «النخبة» و «صحافة النخبة».

 

لقد لجأ الرئيس الأميركيّ إلى لغة لينينيّة حين تحدّث عن «أعداء الشعب»، فيما لجأ الإعلاميّون إلى اللغة التي كانت تُستخدم إبّان الحرب الباردة في وصف العمليّات السرّيّة للسي أي آي: «الحرب القذرة».

 

والأمران معاً يصفان ترامب، ويصفان خصوصاً تلك النزعة الشعبويّة الراسخة التي ترفع المختلف في الرأي، أو في السلوك، إلى عدوّ، كما ترفع تسوية الخلاف معه إلى حرب، هي بالضرورة قذرة.

 

وهنا بالضبط تكمن أزمة التحرّك الإعلاميّ، والتي سبقتها أزمات عاناها الفنّانون والنساء حين تحرّكوا ضدّ ترامب. ولقد أشار عدد من المعلّقين، بمن فيهم مؤيّدون للتحرّك الأخير، إلى أنّ القاعدة الترامبيّة لن تتأثّر بعمل صادر عن «نخبة» عُهّرت ورُذّلت مراراً وتكرّس تصنيفها كعدوّ. لا بل قد يأتي تحرّكها ليؤكّد لتلك القاعدة الانقسامَ القاطع بين «أعداء الشعب» و «أصدقائه» ممّا يريد سيّد البيت الأبيض تعزيزه.

 

هنا لا يعود الانقسام دائراً حول المصالح والأفكار، ولا يعود الاعتبار العقلانيّ ذا وزن أو تأثير، وإلاّ لاستحال تماماً الدفاع عن سياسات الرئيس الأميركيّ ومواقفه. ذاك أنّ الانقسام القاطع (ولدينا في العالم العربيّ عديد الأمثلة عليه) يخدّر الوعي كما يفرز المواقف بين خانتي القداسة والدنس. في وضع كهذا تفقد المعلومة والخبر، فضلاً عن التحليل، القدرة التي ينسبها إليها التأويل الديموقراطيّ المألوف.

 

أغلب الظنّ، والحال هذه، أنّ الكارثة تغدو شرطاً أوحد للتغلّب على الكارثة. والمقصود هنا ضربة اقتصاديّة لا تُحتمل تتأدّى عنها سياسات ترامب، وتترك أثرها الفادح على حياة الجمهور الشعبويّ الذي يواليه. إنّه سيناريو الصدمات الكهربائيّة، أزماتٍ أو حروباً، التي توقظ من يكاد يموت من شدّة الفوات أو من قوّة الخدر.

 

إنّ ما باشرته «بوسطن غلوب» حدث إعلاميّ كبير. وهو قد يشكّل محطّة متقدّمة في إنعاش الصحافة التي تعطيها محاربة ترامب لها، ومحاربتها له، وساماً أخلاقيّاً رفيعاً، كما تجعلها أكثر راهنيّةً وضرورةً في البيئة المتقدّمة والنقديّة. مع هذا سيكون من الصعب أن يصير الحدث الإعلاميّ، في ظلّ المحنة بترامب، حدثاً سياسيّاً يعيد الديموقراطيّة الأميركيّة إلى صوابها.