من المتعارف عليه أن التظاهرة التي لا تغطيها وسيلة إعلام هي تظاهرة غير موجودة، وأن هناك تظاهرات يصنعها الإعلام، وأخرى تُصنع للإعلام. عرف لبنان على مدى السنوات الماضية كلّ هذه الأنواع من التظاهرات، لكنه اليوم أمام نوع جديد منها. لا فضل لوسائل الإعلام عليها في شيء، بل العكس. من يتجاهلها هو الخاسر. هذا الاستنتاج ليس مبالغاً فيه، ولا يأتي في إطار الاحتفاء بحراك هو الأصدق منذ سنوات. إنها حقيقة تثبتها تغطية القنوات التلفزيونية اللبنانية، التي لم يستطع أيّ منها الغياب عن التظاهرات، بما فيها الوسائل الإعلامية التابعة للشخصيات السياسية التي تُصبّ عليها الاتهامات في الساحات. «كلّن يعني كلّن» يغطون التظاهرات، طبعاً كلّ وفق أجندته ومصطلحاته ومقاربته.
وفي هذا المجال، لم يعد الكثير من المواطنين بحاجة إلى من يدلّهم إلى مكامن الخلل في الأداء الإعلامي، فمن يتابعهم على مواقع التواصل الاجتماعي يجد أنهم لم يغفلوا عن شيء، سواء كان هذا الخلل موقفاً طريفاً أو خطأ جدياً. كلّنا تلقينا على هواتفنا فيديو يظهر طلب أحد المواطنين حضور راقصة إلى ساحة التظاهرة في النبطية عبر قناة «المنار»، كما تلقينا الاحتجاجات على عدم نقل قنوات «الجديد» و«أل. بي. سي. آي» والـ«أم. تي. في»، التظاهرات المستمرة لليوم الثالث على التوالي من أمام مصرف لبنان. وبينهما، عشرات الفيديوهات والتعليقات عن حوارات بين المراسلين والمواطنين، فتجري مقاطعة الناس حيناً، وتأديبهم حيناً آخر، وصولاً إلى إزاحة الميكرو من أمامهم. ولم يعد مجدياً الحديث عن الدور المطلوب من المراسل القيام به: نقل الخبر واستصراح الناس، أم توجيه الناس وتعليمهم الصح من الخطأ بحسب وجهة نظر كلّ مراسل، بما أن هذه البديهيات المهنية صارت تعتبر ترفاً يرفض المعنيون الالتفات إليه.
هذا الأداء جعل من الطبيعي أن يستقبل الناس مراسلين بالترحيب هنا وأن يكيلوا على آخرين التهم هناك، وأن يرفعوا مراسلة على الأكتاف هنا، وأن يشتموا أخرى هناك، وأن يتحلّق متظاهرون حول كاميرا هنا، وأن تتعرّض أخرى للكسر هناك. لا جديد في هذه الملاحظات، وليس اكتشافاً القول إن كلّ وسيلة إعلامية تغطي الحدث من وجهة النظر السياسية لمالكيها. لكن يصعب على من يدرك دورة العمل في المؤسسات الإعلامية أن يتجاوز الحديث عن فسادها، حتى عندما يرغب في الإشارة إلى دور إيجابي قد تلعبه. المسؤولية الوطنية تفرض على أي شخص يشيد بعمل إعلامي مميّز، أن يذكّر الناس بأن لكلّ وسيلة إعلامية ارتباطات ومصالح، وأن هذه الوسائل قد خذلتهم مراراً وتواطأت عليهم مراراً، مثلها مثل السياسيين الذين ننتفض اليوم في وجههم. النظام الذي يهتف اللبنانيون لإسقاطه لا يُستثنى منه الإعلام، ولنا في الانتخابات النيابية الأخيرة خير مثال على أدائه، عندما حُرم عشرات المرشحين من الإطلالة عبر الشاشات، لصالح المتموّلين القادرين على دفع عشرات آلاف الدولارات مقابل دقائق قليلة.
لذا، لا نستغرب أن يكون حضور النائب سامي الجميّل إلى ساحة التظاهر في جلّ الديب خبراً عاجلاً يظهر أسفل شاشة «أل. بي. سي. آي» أول من أمس، فيما تجهد الكاميرا في البحث عنه، كأن مئات المتظاهرين في الشارع لا يكفونها، أو أن تتوقف كاميرا «الجديد» عن النقل من أمام مصرف لبنان عندما تتحوّل الهتافات إلى مالكها تحسين خياط في اليوم الأول للتحرّك أمام المصرف، لتكتفي بتغطية خجولة لاحقاً. هذا هو سلوك القنوات التلفزيونية المعتاد، ملاحقة السياسيين واستنساب كلام الناس، بخلاف السلوك الحالي (الموسمي) الذي يقاطع السياسيين لأن هذه المقاطعة «ترند» المرحلة. طبعاً، لا نستثني بقية القنوات، الملتزمة بوضوح بأجنداتها السياسية.
يتوجب علينا تقديم معلومة واضحة وشرحها لكي يستطيع الناس أن يتخذوا موقفاً واضحاً منها
لذا يجب ألا ينخدع المواطنون عندما يقال لهم إن هذه القناة تنقل صوتهم لأنها تحمل قضيتهم. لقد نقلت صوتهم لأنها لا تستطيع تجاوزه، ولأن صوت الناس هو «الرايتينغ» (نسب المشاهدة) اليوم، وهو الشرعية. لا حديث عن الأرقام هذه المرة، ولا «زوم إن» أو «زوم آوت» كما في تظاهرات عام 2005 الآذارية، ولا سفارات أجنبية وغير أجنبية. معيار جميع القنوات اليوم هو الناس، لذا أصبحت تغطية التظاهرات أمراً مفروضاً ولا يكفي للقول إن المؤسسات الإعلامية تقوم بواجبها. الواجب اليوم هو عدم الاكتفاء بفتح الهواء للناس ومقاطعة السياسيين، بل التصدي لمهمة أصعب وهي تقديم معلومة صحيحة، وشرحها، لكي يستطيع الناس أن يتخذوا موقفاً واضحاً منها، وهذا دور مهم يقوم به بعض الزملاء اليوم. وتأتي أهمية هذا الدور في السعي للتخلص من سيطرة الفكرة الواحدة على المشهد العام رغم التعدّد الذي كنا نعتقد أننا نعيشه، فنسلّم جميعًا مثلاً بأن شخصاً واحداً هو مخلّص الجمهورية من الانهيار المالي لأن كلّ وسائل الإعلام كانت (ولا يزال بعضها) تكرّر ذلك. إننا اليوم أمام مشهد جديد، لأن هناك اهتماماً بالأصوات الإعلامية التي تخالف سيطرة الفكرة الواحدة، وإصغاء لها، وهذا ما يمكننا الإفادة منه أكثر من أي مرحلة ماضية