IMLebanon

حرب إظهار صدقية بين الإعلام والذكاء الإصطناعي

 

الأخبار الكاذبة تُعيدنا إلى زمن «غوبلز»

بلبلة في وسائل الإعلام الغربية والعربية كما على مواقع التواصل الإجتماعي، فيض من الأخبار والصور والفيديوات يصعب التحقق من صحتها أو من زيفها، تتلاعب بالعقول والمشاعر عن قصد، يجنّد لها ذكاء إصطناعي وأجهزة استخباراتية وعسكرية. إنها الحرب تحط رحالها على الشاشات بدهاء، وفي حين يمكن التلطي من تشظياتها الفعلية على جبهات القتال، فعلى جبهة تناقل الأخبار والتفاعل معها يصعب الهروب من الحرب الدعائية التي تجتاحنا من كل صوب.

 

هي أكثر من حرب إعلامية هي عودة الى زمن « غوبلز» والدعاية الممنهجة التي تتلاعب بالعواطف. كثير من وسائل الإعلام اليوم تحول الى ما يشبه «وزارة التنوير والدعاية السياسية» التي ترأسها «غوبلز» ايام صديقه هتلر الذي أتقن فن نشر الأكاذيب لغايات سياسية خاصة. عنها يقول هتلر «بالاستخدام المستمر للدعاية الماهرة يمكنك أن تصور للجمهور الجنة وكأنها الجحيم، أو الحياة البائسة للغاية وكأنها الجنة» فكيف إذا كانت هذه الدعاية المضللة اليوم من صنع ذكاء يفوق البشر يتفنن في إنتاج الكذبة وجعلها أكثر واقعية من الحقيقة نفسها؟ كيف يمكن التصدي لها ومحاربة آثارها الكارثية على الرأي العام؟

 

أخبار ملفقة وصور مركبة

 

رولان ابي نجم الخبير في التحول الرقمي يقول ان الحرب الإعلامية هي جزء اساسي من الحرب وتقوم على ركيزتين: بث الأخبار الزائفة وضرب صدقية العدو. وهذا بالذات ما يحدث اليوم عبر استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل خاص لتركيب صور وفيديوات مزيفة تسارع وسائل الإعلام ومواقع التواصل الى تناقلها من دون التحقق من صحتها بهدف التلاعب بالرأي العام وتجييشه لتبني سردية معينة وضرب أخرى.

 

وسيلتان تستخدمهما المطابخ الأمنية والعسكرية والإعلامية لتضليل الرأي العام عبر منشوراتها. الأولى تركيب الصور والفيديوات أو الأخبار بواسطة الذكاء الاصطناعي لتبدو حقيقية الى أبعد حد، والثانية استخدام صور ومقاطع فيديو حقيقية إنما تعود الى زمان آخر أو مكان آخر. و يتناقل الناس هذه المنشورات بشكل سريع دون التحقق من صحتها ما يساهم في إصابتها الهدف الذي صنعت لأجله. الأمثلة التي نشهدها اليوم على هذا التزييف، يتابع أبي نجم أكثر من أن تحصى، منها مثلاً صورة لمخيمات للنازحين وعليها العلم الإسرائيلي أو فيديو ملفق عن مشاركة إماراتية وسعودية في الحرب الى جانب الإسرائيليين، او بث فيديوات لأعنف ليلة قصف على غزة فيما هي تعود الى الحرب السابقة.

 

 

لكن تزييف الأخبار لا يساهم فقط بحسب أبي نجم في شيطنة الطرف الآخر وضرب صدقيته بل يؤدي أيضاً الى ضرب صدقية وسيلة الإعلام التي تبثه. وقد شهدنا مثالاً صارخاً على ذلك في الأيام الماضية، حيث عمدت وسائل إعلام ومحطات تلفزيون عالمية لها تاريخها ومهنيتها في بث أخبار وصور وفيديوات كاذبة مثل خبر قتل حماس أربعين طفلاً وقطع رؤوسهم وهو الخبر الذي عادت محطة CNN العريقة واعتذرت عنه معرّضة كل تغطيتها للشك والتساؤل. ومثال آخر هو التسويق لسردية استهداف المستشفى المعمداني من قبل صاروخ لحركة «الجهاد» حيث تبنى الغرب في وسائل إعلامه هذه « الخبرية» معرضاً صدقيته للشك. لكن كما يقول المثل «الحجر الذي لا يصيب يدوش» ويترك اثراً عند المستعدين لتصديقه والتفاعل معه.

 

التزييف أيضاً طال الرأي العام العربي وإن بشكل أقل ولأسباب أخرى، حيث ظهرت صور مفبركة مثل صورة شخص يحمل رضيعاً ميتاً، تبين بعد التدقيق فيها أنها دمية. أو فيديو لشخص يقول إنه تحت القصف ومعرض للموت وانتشر بعدها خبر موته اثناء تصويره للفيديو ليتبين في ما بعد انه خبر كاذب. وهذا النوع من الأخبار التي تنتشر بسرعة وتهدف الى إثارة التعاطف يضر بدوره بالطرف الفلسطيني وقد يتم استغلاله لضرب صدقيته.

 

حرب على أرض العدو

 

لكن أبعد من حرب التزييف والأخبار الكاذبة ثمة حرب أخرى يقودها الغرب ويمتلك كل مقوماتها وتقنياتها هي حرب مواقع التواصل والذكاء الاصطناعي يقول أبي نجم. فمن الـ GPS وخرائط غوغل وآبل الى الخوارزميات والتحكم عبرها بمنشورات وسائل التواصل الى استخدام الذكاء الاصطناعي عسكرياً في الرصد والمراقبة والاستهداف يقول ابي نجم أنه يصعب خوض حرب بتقنيات يتحكم بها العدو، فالقتال هنا يدور في ملعبه والأسلحة اسلحته. منصات فيسبوك وأكس وانستغرام تمنع وصول المنشورات المتعلقة بفلسطين الى العالم وتلغي حسابات تقول أنها تابعة لحماس او لنشطاء يؤيدون القضية الفلسطينية. حتى منصة تلغرام الخارجة مبدئياً عن سيطرة الغرب أقفلت عدة قنوات تابعة لحركة حماس. كذلك حاولت الحركة استخدام العملات المشفرة مثل البيتكوين وغيرها للحصول على تمويل لكن منصة Binance قامت بإقفال عدة حسابات للحركة في بيان رسمي لها.

 

صوا

 

في خضم هذه البلبلة الكثيرة الحاصلة كيف يمكن للأفراد التأكد من صحة ما يصلهم من معلومات ومنشورات عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل؟ مجموعة من الشبان اللبنانيين العاملين في الصحافة والشأن الاجتماعي أنشأوا منصة « صواب» الإعلامية على أثر ورشة عمل تم تنظيمها مع برنامج تابع لـ UNDP. هدف المنصة كما يدل اسمها هو إظهار الصواب من الخطأ والتدقيق في ما ينشر من أخبار وصور، ومنذ إنشائها منذ سنة ونصف حتى اليوم تمكنت المنصة من التدقيق في أكثر من 600 خبر كاذب. وهي تتعاون مع منصات شبيهة في مختلف الدول العربية حرصاً على تقديم المعلومة الصحيحة وكشف الأخبار الكاذبة.

 

فؤاد بو غادر وهو صحافي ومدقق معلومات في منصة «صواب» يكشف لنداء الوطن ما يحدث اليوم على الساحة الإعلامية وعبر مواقع التواصل من تزييف وأخبار كاذبة ويقول: «نحن اليوم في حرب رقمية توازي الحرب العسكرية والدعاية الغربية واضحة جداً من خلال تجنيد كبرى وسائل الإعلام لخدمة فكرة واحدة. أي خبر اليوم يصبح مثل كرة الثلج يتضخم ويتم تناقله بسرعة. الوسائل الغربية تبرع في الحرب الدعائية أكثر من الطرف المقابل لكن المبالغة في تضخيم الأخبار الكاذبة ولدت ردّ فعل معاكسلً بحيث وجد المتابعون لها حتى من هم من مناصري إسرائيل نوعاً من الاستغباء لهم في حين أن وسيلة الإعلام ينبغي أن تقدم حججاً مثبتة وليس دعاية فاقعة أو نقلاً عن مصادر غير موثوقة».

 

نسأل هنا هل التضخيم وقف على الغرب فقط أم ان الإعلام العربي يشارك به من ناحيته؟ يقول بو غادر:» حسب رصدنا لمحطة الجزيرة وهي المحطة الأهم التي تنقل أخبار الحرب في غزة، وجدنا أنها تؤمن تغطية موضوعية واحترافية بعيداً من التزييف وتلفيق الأخبار. وهي بذلك تقدم وجهاً إعلامياً قادراً على منافسة الغرب بفضل تغطيتها وإمكاناتها واحترافية مراسليها وصحافييها ويمكن القول أن الأمر ذاته ينطبق على تلفزيون الجديد».

 

على الصعيد الفردي ومن خلال ما نرصده يقول بو غادر «ثمة اشخاص يقعون في فخ الـ FAKE NEWS لشدة تعاطفهم مع غزة فيعمدون مثلاً الى تعديل بعض الصور مثل زيادة ملامح التعب على وجوه الأطفال أو نشر صور وفيديوات قديمة. وفي هذا السياق ومع الانتشار الكثيف لصور أطفال غزة الناجمة عن التعاطف بدأت بعض الآراء ترتفع بوجوب احترام خصوصية الأطفال وربما الحد من هذه الصور تجنباً لتعريض الناس للمزيد من الضغوط والكآبة، فيما اصرت آراء أخرى على وجوب تكثيف نشرها لإظهار شراسة العدو وحربه ضد الإنسانية. ورغم أن التداول بالأخبار الكاذبة أو المضخمة يمكن أن يحدث في العالم أجمع إلا أن موضوع التربية الإعلامية في الشرق لا يزال ضعيفاً بصورة عامة ولا نملك ثقافة التدقيق بالمعلومات والبحث عن المصادر وهذا ما نحاول تصويبه عبر منصة « صواب».

 

في لبنان الأمر يختلف فالأخبار الكاذبة يتمحور معظمها حول التهويل بالحرب، إذ إن هذه الأخبار التهويلية تنتشر بشكل مرعب مثل خبر انسحاب اليونيفيل أو خبر طلب إخلاء الضاحية الجنوبية. «الغاية من هذه الأخبار غير واضحة» يقول فؤاد بو غادر وإن كانت الإنقسامات في لبنان تدفع بالبعض الى اللعب على وتر التهويل. كما يقوم أفراد بنشر هذه الأخبار إما لكسب المزيد من المتابعة او بسبب الحماسة. لكن مهما تكن الأسباب فإن هذه الأخبار لا تساهم في بلد يعاني من إنقسامات مثل لبنان إلا في تأجيج خطاب الكراهية الذي بلغ اعلى مستوياته مؤخراً. والخطر أن في لبنان عدداً كبيراً من المواقع الإعلامية الصغيرة غير الموثوق بها وغير الحائزة ربما على رخص تتبنى ما ينشره أفراد أو ناشطون وتقوم بإعادة نشره مساهمة بانتشاره على شكل واسع دون التدقيق فيه».

 

من الأمثلة على أخبار التهويل التي تجتاح لبنان صورة تم تداولها للمطار تظهره فارغاً من الطائرات وأثارت خوفاً كبيراً وقلقاً عند اللبنانيين ليتبين بعد التدقيق انها تعود الى مرحلة جائحة كورونا.

 

حتى الصورالتي تنشر عن القصف الذي يطال قرى في الجنوب بعضها قديم لكنها تؤدي الى تأجيج مخاوف الناس.

 

أخيراً وفي خضم هذه البلبلة ثمة سؤال يطرح على منصات التدقيق في الأخبار الكاذبة: كيف يمكن لهذه المنصات أن تواجه الذكاء الاصطناعي القادر على التزييف بشكل يجعل الخبر مطابقاً للواقع؟ عن هذا الأمر يقول بو غادر انه من الصعب جداً مواجهة الذكاء الاصطناعي وهذا ما يجمع عليه كل العاملين في مجال التدقيق. فالأدوات المستخدمة في هذا المجال لم تتطور بعد بالمستوى نفسه الذي تطور به الذكاء الاصطناعي لا بل لا تزال متأخرة جداً. لكن منصات التدقيق تقوم بكل ما في وسعها لكشف الصور المركبة والأخبار الكاذبة والمضللة. ويمكن لاي شخص أو وسيلة إعلامية العودة الى هذه المنصات والاتصال بها للتأكد من المحتوى في حال الشك بخبر كاذب.