كثر أخيراً الحديث عن عودة نهائية لأطباء غادروا لبنان مع انفجار الأزمة المالية للعمل في الخارج، وزاد منسوب التفاؤل من انعكاس هذه العودة تحسّناً في القطاع الطبي الذي فقد في السنوات الأخيرة نحو 35% من الأطباء المتمرسين، بحسب نقابتي بيروت والشمال. وتؤكد حصيلة غير نهائية أن نحو 20% ممن غادروا استأنفوا التواصل مع نقابتهم وأعادوا فتح عياداتهم. غير أن هذه العودة لا يبدو أنها ستؤسس لبداية مؤملة لإعادة «تأهيل» القطاع الطبي لأسباب عدة، تبدأ بأرقام العائدين التي لم تتجاوز حتى اللحظة 20% من نسبة المغادرين بحسب أرقام نقابتي الأطباء في بيروت والشمال. ويوضح نقيب أطباء الشمال الدكتور محمد صافي أن «طبيباً واحداً عاد من بين كل خمسة أطباء غادروا لبنان»، لافتاً إلى أن غالبية العائدين يأتون من الدول العربية، لا سيما العراق والخليج (تحديداً السعودية) «بعدما أدّت الهجرة الكبيرة للأطباء وحتى الممرضين إلى انخفاض الرواتب وتقليص الحوافز» ما دفع بكثيرين إلى العودة، خصوصاً بعد دولرة الفحصيات.
وفي ثاني الأسباب التي تقلّل من أهمية العودة أن الهجرة لا تزال «شغّالة»، وإن ليس بالزخم نفسه كما في السنوات الثلاث الأولى من عمر الأزمة، ما يعني أن النزف مستمر. أما السبب الثالث، والأكثر أهمية، فيتعلّق بـ«هوية» العائدين. إذ يجمع المعنيون في النقابتين أنهم من أصحاب الإختصاصات العامة والشائعة «الذين لم يتركوا فراغاً كبيراً لوجود بدلاء لهم في لبنان»، فيما اصحاب الاختصاصات المتميزة والدقيقة «لا يعودون بسهولة»، بحسب أمين السر العام في نقابة أطباء بيروت الدكتور رفيق سلوم، لأن هؤلاء «مرغوبون بسبب اختصاصاتهم وتُعرض عليهم رواتب وحوافز مشجعة. ويوضح أن «من كانت وجهتهم أميركا أو فرنسا، مثلاً، لا يعودون على عكس من قصدوا دولاً عربية أو دولاً أوروبية أخرى. ولا يتعلق الأمر دائماً بالاستفادة المادية، وانما أيضاً بالعوامل النفسية والحياتية الأكث راحة بالنسبة اليهم». وإلى ذلك، هناك شريحة من الأطباء تعمل «إجر هون وإجر برا» بين لبنان وبلدان الإغتراب بسبب أهمية الاختصاصات التي يمتهنونها. لكن، حتى في تلك المعادلة ثمة مخاطرة، وفق عضو اللجنة العلمية في نقابة أطباء بيروت الدكتور مروان الزغبي، إذ أن هؤلاء رتّبوا حياتهم على أساس برنامج شهري، جزء منه في لبنان وآخر في الخارج، «ولا يشمل برنامجهم الحالات الطارئة»، ما يعني عملياً أنهم «شبه مهاجرين»، مشيراً مثلاً إلى «طبيب أشعة يحضر كل شهر ونصف إلى لبنان لفترة وجيزة لإجراء كل ما هو مطلوب قبل أن يغادر، في الحالات الطارئة التي تحدث في غيابه على المستشفى أن يتدبّر أمره».
سجّلت نقابتا بيروت والشمال عودة واحد من كل خمسة من الأطباء الذين هاجروا بعد الأزمة
لذلك، يختصر بعض الأطباء الأمر بأن العائدين أشبه «بعساكر وليسوا ضباطاً»، ليس تقليلاً من قيمة من يعودون، وإنما توصيفاً لواقع قطاعٍ بات يفتقد لكثير من أصحاب الاختصاصات الدقيقة بعد هجرة نهائية لهؤلاء الذين ميزوا يوماً ما مستشفيات لبنان. ويحاول الزغبي تلطيف الصورة بالقول إن العائدين هم أيضاً ضباط، ولكن «ضباط مشاة وليس ضباط طيران»، مشيراً إلى أن النقص في الاختصاصات الدقيقة لا يزال هو نفسه، إما بسبب محدودية أعداد الأطباء فيها في الأصل أو لأن هذه الاختصاصات مرغوبة في الخارج. وبترتيب الاختصاصات الغائبة من الأخطر إلى الأقل خطراً، يشير الزغبي إلى نقص فادح في صفوف جراحي شرايين الدماغ وجراحي القلب للأطفال والإنعاش للأطفال أيضاً. وينسحب النقص، وإن بنسبة أقل تراوح بين 70 إلى 50%، على اختصاصات أطباء الإنعاش والتخدير والأشعة، لا سيما للأمراض السرطانية، وأطباء الطوارئ والكلى وغيرها. ويشير إلى أنه في كل اختصاص هناك نقص «وتحديداً في بعض الحالات التي تحتاج إلى تقنيات عالية بات توافرها منقوصاً». ولذلك «تلجأ المستشفيات إلى استعارة الأطباء من بعضها بعضاً».
على المدى الطويل، لا تفاؤل بأن القطاع الطبي سيعود إلى سابق عهده، أولاً بسبب الأوضاع المعيشية والسياسية والأمنية، وثانياً بسبب طريقة تعاطي المعنيين بالأمر، لا سيما السياسات التي تتبعها وزارة الصحة، والتي توحي «بأن القطاع الطبي ليس أولوية بالنسبة إليها»، بدليل «الطريقة التي تتعامل بها الوزارة مع القطاع وليس آخرها مثلاً تقييمها للأعمال الطبية التي يقوم بها الأطباء، حيث حددت مقطوعة لكل عمل بشكلٍ يمسّ بجوهر قيمة تلك الأعمال». وإذ يتفهم هؤلاء «أن ثمة ميزانية على وزارة الصحة توزيعها بما يغطي كل القطاعات»، إلا أن طريقة التعاطي تشير «وكأن آخر قطاع يجب أن يتحسن هو القطاع الطبي». والحل؟ بتعديل الطريقة «واعتبار هذا القطاع أولوية»، تضيف المصادر. ويأسف هؤلاء إلى ما آل إليه مستوى الطب في لبنان، فبعد أن كان «أفضل من الطب في أميركا وكندا، اليوم أصبحنا في مكانٍ بات فيه تأمين المدخول هاجساً»، ووصل التراجع في المهنة إلى حد تفكير أطباء كثرٍ «بفتح بزنس طب في افريقيا مثلاً». وبدلاً من «أن نحثّ الطبيب على تطوير إمكانياته في اختصاصه وأن يرفع من مستواه، وصل بنا الحال لنقول له روح دبّر حالك». وبحسب الزغبي، هذا التعديل في الوجهة «نقلنا من center of excellence إلى مربّع الـsurvivor mode». ولذلك، فإن «كثراً من أطباء لبنان لم يعودوا بالمستوى المحدّث نفسه الذي كانوا يسعون إليه سابقاً، ومع مرور الوقت ستتضاعف الأزمة لأن الطبيب الذي لم يسع لتحديث معلوماته سيكون من الصعب عليه أن يواكب التطورات».