بعد تبشيرها اللبنانيين بـ”بدء انهيار مافيا الدواء”… “الصحة” تداهم مستودعاً جديداً ضالعاً في التهريب
تحوّلت قضية “الدعم والتهريب” إلى ما يشبه لعبة “القط والفأر” الشهيرة، حيث السباق بينهما لا ينتهي أبداً. الدعم “العبثي” يلاعب المهربين ولا يصطادهم. وفي المقابل، يستمر “برمي” الأدوية والمواد الغذائية والمشتقات النفطية المدعومة لهم، ليحققوا مبالغ طائلة ببيعها إلى الخارج.
في الأمس داهمت القوى الامنية مع فريق من وزارة الصحة مستودعاً في كورنيش المزرعة يحتوي على أدوية يتمّ تهريبها إلى الخارج. وقبلها بحوالى 4 أشهر، وتحديداً في تشرين الاول من العام الماضي، أقفلت وزارة الصحة صيدليات ومستودعات بالشمع الاحمر بعدما تبين تورط أصحابها بتهريب الادوية المدعومة. حينها بشّر وزير الصحة حمد حسن “ببدء انهيار مافيا الأدوية”. لكن لم تلبث هذه المافيا أن استأنفت نشاطها التهريبي بعد مدة وجيزة. حيث كشفت مجموعة من التقارير بالوقائع والأسماء شبكة المتورطين بتهريب الأدوية إلى مصر. هذا غيض من فيض عمليات التهريب، التي لن تتوقف قبل رفع الدعم على السلع والمنتجات، والانتقال إلى خطة دعم الأسر والعائلات المحتاجة بمبالغ نقدية بشكل مباشر.
تهريب الدواء “أربح” بأضعاف
الدعم العشوائي على الدواء كلّف لبنان في العام 2020 بحسب أرقام “الكتلة الوطنية” ما يقارب 322 مليون دولار، وإذا أضفنا إلى هذا المبلغ دعم المعدات الطبية بقيمة 122 مليون دولار، يرتفع الرقم الإجمالي إلى 444 مليون دولار. و”النتيجة: لا دواء”، تقول الدكتورة الصيدلانية منار أنيس موسى. “فالشركات والمستودعات لا تسلّم الأدوية بالكميات الكافية وبالتوقيت المناسب. والمواطنون يطلبون الدواء بالجملة، ويخزنونه خوفاً من انقطاعه أو ارتفاع سعره. وتجار “الشنطة” بين لبنان والدول المجاورة لا يكلّون ولا يهجعون عن جمع الأدوية لبيعها في الخارج”.
ما يجري على أرض الواقع، يُظهر ان كل فريق يحاول تأمين مصلحته على حساب الجميع. فلماذا تبيع بعض الشركات والمستودعات الأدوية إلى الصيدليات على سعر الصرف الرسمي، في حين أنها تستطيع تحقيق أرباح طائلة لبيعها بالدولار للخارج عبر المهربين؟. وعلى سبيل المثال فان بيع علبة دواء “لوفينوكس” LOVENOX المسعرة في لبنان بـ23 ألف ليرة تباع للخارج بـ12 دولاراً أو ما يعادل 100 ألف ليرة بحسب سعر السوق. في حين أن المستهلكين يسألون عن أدوية تمتد صلاحيتها للعام 2025، ومن كان يشتري علبة دواء “بالدين” أصبح يشتري “بالدزينة”. وفي ما يتعلق بتجار الشنطة الذين يعملون تحديداً بين لبنان وسوريا فقد أصبحت وجوههم معروفة من الصيادلة، حيث يشترون بـ 100 دولار (900 الف ليرة) كمية كبيرة من الأدوية.
الأزمة مزدوجة
بالاضافة إلى الدعم المترافق مع انهيار سعر الصرف، فان “مشكلة الهدر في سوق الدواء في لبنان لا تعود إلى يومنا الحاضر”، بحسب موسى، “بل هي نتيجة سنوات من تخفيض أسعار أدوية “الماركات” Brands من دون أي دراسة لآثارها الاقتصادية، وحتى قبل تخفيض أسعار أدوية “الجنريك الجنيسي”. فتحوّل سوق الدواء اللبناني إلى الأرخص في المحيط، خصوصاً لجهة أدوية العلامات التجارية المشهورة والتي تمثل الطلب الأساسي”. فسعر دواء القلب ليبيتور Lipitor محدد بـ 70 ألف ليرة. واليوم ومع انهيار سعر الصرف أصبح ثمنه 7.7 دولارات. “فهل يتواجد هذا الدواء “الماركة” بهذا السعر في أي من الدول”، تسأل موسى، لتجيب أن “تخفيض أدوية “البراندز” واستمرار الدعم في ظل انهيار سعر الصرف، قضيا على سوق الدواء في لبنان وحفّزا الجميع على التهريب إلى الخارج”. وبرأيها فانه “بعدما كان المواطنون يحملون الأدوية التركية والسورية ويطلبون من الصيادلة مقارنتها مع وصفة الطبيب، أصبح العاملون على خط بيروت الشام، يحملون الوصفات السورية ويطلبون أدوية الامراض المستعصية المرتفعة الثمن جداً من لبنان. فدواء السرطان الذي كان مسعّراً بحدود 8 آلاف دولار أصبح ثمنه أقل من 1000 دولار. حتى إن الطلبات لا تستثني المسكنات. حيث يشهد سوق البانادول طلباً غير مسبوق”. الفرق الشاسع في أسعار أدوية “البراندز” بين لبنان ومختلف دول العالم، سيشكل حافزاً للتهريب على الدوام. ولن تحل هذه الاشكالية إلا “مع رفع الدعم عن أدوية البراندز”، تقول موسى. “فطالما أسعار “البراندز” متدنية ومدعومة، وقيمة العملة منخفضة، فان التهريب لن يتوقّف مهما حاولوا”.
الصيدليات ضحية
يتحمل أصحاب الصيدليات في هذه الازمة الضرر الاكبر. فعمولتهم المحددة بـ22.5 في المئة على بيع الدواء (يذهب منها 2.5 في المئة للمالية)، ما زالت تقبض على 1515، في حين أن كل الاكلاف المعيشية زادت عليهم بأضعاف. حتى أن المصاريف اللوجستية في الصيدلية كتغيير محابر آلات الطباعة، والأكياس والامور المتعلقة بـ”الديكور” تحتسب على أساس 9000 ليرة. ومع هذا كله تُخفّض أسعار الأدوية باستمرار، وتنخفض معها نسبة ربح الصيدلي.
إستنزف التهريب أكثر من 50 في المئة من كلفة الدعم على أحسن تقدير. ما يعني أن حوالى 150 مليون دولار مما تبقى من أموال المودعين لم يستفد منها اللبنانيون. ومع هذا أكّد مدير عام وزارة الصحة فادي سنان أن “الدعم لن يرفع عن أيّ دواء، بل سيُصار إلى ترشيد الإنفاق”.
وفي ظل حالة التخبط بين الحكومة والوزارات من جهــة، ومصرف لبنــان والمؤسسات الخاصة من جهة ثانية، يبدو ان الدعم لن يرفع اختياريــاً، لا بشكــــل كلي ولا جزئي، إنما نفاد الاحتياطي من العملة الصعبة، سيضع الجميع أمام موقف صعب، كان بالامكان تفاديه باعتماد الدعم المباشر للعائلات المحتاجة والبدء بخطة الاصلاح.