أزمة الدواء ليست بنت ساعتها في لبنان… هي أزمة مزمنة متفاقمة منذ عقود، وإن كانت بلغت مرحلة بالغة الخطورة في هذه الايام. ومن باب التذكير وحسب نشير الى محاولتين رائدتين لضبط التجارة اللاإنسانية بالدواء وقد انتهتا بسقوط الوزيرين اللذين قاما بهما.
اولهما وزير الصحة الأسبق المرحوم الدكتور نسيب البربير الذي ناضل، سنة 1966، لتخفيض سعر الدواء عشرة قروش… وفشل فشلاً ذريعاً: فقد أسقطوه بعد أن أسقطوا مشروعه.
بعد خمس سنوات (1971) سجلت محاولة جدية ثانية على يد وزير الصحة آنذاك المرحوم الدكتور إميل بيطار الذي هاله ما توفره تجارة (واحتكار) الدواء من أرباح غير قانونية على حساب المريض اللبناني. ورفع الشعار الآتي: «حتمية مواجهة شبكة المستفيدين والمحتكرين التي تتحكم بسوق الدواء». وبالرغم من أن بيطار كان مدعوماً بقوة من رئيس الجمهورية سليمان فرنجية الذي كانت صلاحياته الرئاسية، قبل اتفاق الطائف والدستور الجديد، شبه مطلقة… بالرغم من ذلك أسقط مشروع الوزير بيطار واضطر للاستقالة!
والفارق بين ذلك الأمس واليوم أن المرتكبين كانوا محصورين في فئة الذين يحتكرون استيراد الدواء، أما اليوم فلقد بينت المداهمات ان المحتكرين وحاجبي الدواء عن المرضى، وبينهم المصابون بالأمراض المزمنة وذوو الحالات الخطرة، ليسوا المستوردين، وهذا دليل قاطع على المدى الذي بلغه الانحطاط الأخلاقي… ويكفي أن بعض الذين حجبوا الدواء عن المرضى فضلوا أن تسقط مدة صلاحيته على أن يفرجوا عنه بالسعر المدعوم، ما عرض الكثيرين من المرضى الى خطر الموت!
ومعضلة الدواء لا تتوقف هنا، اذ فيها جوانب عديدة أكتفي بالإشارة الى إحداها وهي تتمثل في التواطؤ بين بعض تجار الدواء ونفر من الأطباء الذين يصفون دواء بعينه من بين أدواء مماثلة التركيب والفاعلية، وذلك مقابل نسبة من الأرباح أو مقابل مبلغ مقطوع.
في هذا المجال أسرد حادثة ذات مغزى كبير، أنا شاهد مباشرة عليها:
ذات يوم التقط احدهم جرثومة من أحد المستشفيات المهمة، وكان أن تسببت له بآلام مبرحة جداً مرفقة بنزيف دموي حاد… شخّص الطبيب المعالج الحال على حقيقتها بعد إجراء الفحوص والاختبارات اللازمة، ثم وصف للمريض الدواء. وعندما اخذ المريض «الروشتة» الى الصيدلية أصيب بالذهول إذ اكتشف أن ثمن العشرين حقنة التي عليه شراؤها يبلغ عشرين مليون ليرة لبنانية ويومها كان الدولار فقط بألف وخمسماية ليرة. غادر الرجل الصيدلية واتصل بأحد أصدقائه، وهو طبيب، وأخبره بالأمر. وبعد هنيهة قال الصديق سجل عندك اسم هذا الدواء واحصل عليه من الصيدلية وانس أمر الحقن نهائياً، اذ في العبوة التي أدعوك لشرائها بدلاً من الأبر عشرون حبة دواء كل منها بمواصفات وتركيب الحقنة. وعندما عاد الى الصيدلية قال له الصيدلاني ما سبق أن أكده صديقه الطبيب من التوافق التام بين العشرين حقنة والعشرين جرعة.
اما المفاجأة فكانت أن ثمن الدواء كان فقط عشرة آلاف ليرة لا غير بدلاً من العشرين مليوناً.