“خبي دواءك الأبيض ليومك الاسود”
ما إن سمع اللبنانيون برفع الدعم عن الدواء حتى تهافتوا على الصيدليات، “تموّنوا ” ما يحتاجونه لأشهر، تموّنوا وحولوا منازلهم الى مخازن تقيهم شر المرض وتحفظ لهم ما تبقى من صحة جسدية ونفسية. الأثرياء منهم بحبحوا المخزون فيما الفقراء بالكاد استطاعوا تأمين احتياجاتهم الآنية. حالة الهلع التي اصابت الناس عرضت مخزون الأدوية للخطر ورسمت ملامح قاتمة للآتي من الايام التي يصبح فيها رفع الدعم واقعاً يضع صحة المواطن في مهب الريح.
الخوف من انقطاع الادوية وارتفاع اسعارها خلق بلبلة كبيرة بين الناس جعلتهم ينتظرون على ابواب الصيدليات كما كانوا ينتظرون ايام الحرب على أبواب الأفران، جميعهم يطلبون من أدويتهم علبتين وثلاث ولو استطاعوا لطلبوا اكثر.هذا الإرتفاع الشديد في الطلب استهدف بشكل خاص، بحسب الإحصاءات، الأدوية المختصة بالأمراض المزمنة والمستعصية وهي: القلب والسكري، الأمراض النفسية والعصبية والأمراض السرطانية، فيما انخفض الطلب على أدوية الأمراض الأخرى مثل أدوية الأمراض الجلدية أو الأمراض النسائية.
سعر الدواء مهدّد بالارتفاع خمسة أضعاف
نقيب مستوردي الأدوية واصحاب المستودعات في لبنان كريم جبارة أطلق صرخة تتخطى التحذير وتكشف وحول المشكلة التي بدأ لبنان يغرق فيها نتيجة التهديد بوقف الدعم عن القطاع الدوائي. فالمشكلة بحجم كارثة متشعبة الامتدادات تطال ليس فقط المريض اللبناني بل كل القطاع الصحي ولا سيما الجهات الضامنة. رفع الدعم يعني التحول نحو السوق السوداء للاستيراد مع ما يعنيه ذلك من ارتفاع جنوني في سعر الدواء يعادل خمس مرات سعره الحالي.
حتى اليوم لا يزال سعر الدواء محدداً وربح المستورد كما ربح الصيدلي ثابتاً، ولكن قد تنقلب هذه المعادلة رأساً على عقب ويغرق لبنان في كارثة حقيقية، تهدد أمنه الصحي والاجتماعي إذا ما بات على المستوردين شراء الدواء وفق سعر السوق السوداء، في حال لم يستطع مصرف لبنان الاستمرار في تأمين الدولار الدوائي بسعر 1500 ليرة للدولار. 35% من اللبنانيين غير خاضعين لأية جهة ضامنة ونصف هؤلاء باتوا تحت خط الفقر فكيف بإمكانهم تحمل الزيادة المتوقعة في اسعار الدواء؟ اما الجهات الضامنة التي تغطي 65% من اللبنانيين وتتحمل تكاليف 80% من سعر الدواء فميزانياتها كلها بالليرة اللبنانية، ولا يمكنها تحمل اية زيادة في أسعار الدواء تجعل مصاريفها أكبر من ميزانيتها وتعرّضها للإفلاس او تضطرها الى تغطية اقل من 20% من سعر الدواء.
الأدوية المزورة تملأ الفراغ
تتشعب المشكلة وتتعاظم آثارها في حال قرر المصرف المركزي المضي في قرار رفع الدعم عن الدواء والقمح والمحروقات. إذ تشير الأرقام الى أن هذه السلع تمثل طلباً على العملات الأجنبية يقدر بـ 6 الى 7 مليارات دولار في السنة، يحتل الدواء نسبة مليار ونصف المليار دولار منها ومتى أزيل الدعم عنها فإن الطلب على الدولار في السوق السوداء سيرتفع ما يرفع سعره أكثر مما هو حالياً بكثير وسيخف الاستيراد بشكل كبير مسبباً انقطاع أنواع كثيرة من المواد المستوردة ومن بينها الأدوية.
ويؤكد النقيب ان الطبيعة لا تحب الفراغ لذلك فثمة من سيعمل على ملئه والحلول محل الأدوية المقطوعة من خلال الأدوية المزورة والمهربة، ولا سيما وأننا في بلد غير قادر على ضبط حدوده وهي بمثابة كارثة حقيقية تتهدد صحة المواطن مثل الغلاء الهستيري في اسعار الدواء.
في اواخر شهر أيلول من العام الماضي قرر مصرف لبنان دعم الدواء ووضع خطة على اساس أن تتحلحل الأمور في خلال سنة وتبدأ الإصلاحات وتدخل العملات الأجنبية إلى لبنان من جديد، ما ينقذ بذلك القطاع الصحي والمستشفيات والجهات الضامنة والمواطنين. ولكن اليوم بعد سنة بالضبط ما زال الحل، الذي كان يفترض ان نصل إليه، بعيداً. الدعم مهدد بالتوقف وكل القطاعات الصحية مهددة بالانهيار.
خطة صحية لتحييد الدواء
هل يبقى مصير الدواء رهينة وعود بإصلاحات لم تظهر اي بوادر لها بعد؟ وهل تبقى صحة اللبناني على كف عفريت؟
يرى النقيب جبارة أنه بانتظار الخطة الاقتصادية الشاملة لا بد أولاً من تحييد الدواء والحفاظ على المبالغ الكافية لدعمه ما يؤمن للمستوردين والجهات الضامنة أقله 6 اشهر، بانتظار انطلاق الخطة الاقتصادية الشاملة وبدء تدفق الأموال الأجنبية. أما إذا تعذر السير بالخطة الاقتصادية فقد تكون الخطوة الثانية التوجه الى الجهات المانحة بخطة صحية فقط غير مرتبطة بإصلاح القضاء والكهرباء والمصارف، يكون الهدف منها دعم القطاع الصحي مع تقديم الضمانات الكافية من قبل هذا القطاع بالشفافية المطلقة والبعد عن الفساد. ويجب الاستفادة اليوم من الحماسة الدولية تجاه لبنان لإعداد خطة صحية عاجلة قد تكون الاستجابة لها من خلال وضع وديعة بالدولار مثلاً في مصرف لبنان، تستخدم للقطاع الصحي فقط أو منح قرض طويل الأمد يسمح لمصرف لبنان بدعم الدواء مع تقديم كل الضمانات اللازمة يتم تسديده بعد 10 سنوات، بعد ان يكون لبنان قد خرج من ازمته المالية واعاد بناء مخزونه من العملات الأجنبية.
الأرقام المطلوبة لدعم الدواء مقبولة، يؤكد النقيب، ويمكن مع ما تبقى في مصرف لبنان تأمينها من الدول العربية والأوروبية على اربع دفعات سنوياً لا تتعدى الواحدة منها مبلغ 250 مليون دولار، وهذا ما يسمى القرض الانتقالي bridging loan لتقطيع المرحلة الراهنة.
نسأل نقيب مستوردي الأدوية كيف تتم اليوم معالجة مشكلة انقطاع بعض الأدوية؟ يقول إن بعض الأدوية المستوردة او المحلية انقطع تماماً من الأسواق لكن ثمة شحنات مقبلة تصل قريباً تعوض النقص. لكن بانتظار ذلك لا بد من تنظيم عملية المخزون وقد تم وضع ما يشبه الخطة لذلك بحيث يصف الطبيب علبة واحدة فقط ولا يعطي الصيدلي أكثر من علبة والمستورد بدوره يؤمن للصيدليات مخزون شهر واحد فقط. وقد سعينا مع نقابة الصيادلة الى معالجة انقطاع بعض الأصناف إما من خلال الطلب الى الأطباء بتغيير ماركة الدواء اواستعمال الجينيريك او الانتقال الى جزيئية اخرى متواجدة ضمن المخزون لتلبية الاحتياجات الملحة.
هلع الناس مبرر، يقول النقيب، وتهافتهم على الأدوية كذلك، ومهما حاولنا تقنين المخزون لا بد من أن يخرج مسؤول يتمتع بالصدق والشفافية ليطمئن الناس أن صحة المواطن ودواءه خط احمر لا يمكن تجاوزه.
إستراتيجية جديدة للدواء
الى نقيب الصيادلة د. غسان الأمين الذي يلعب دور صمام الأمان بين الدولة والمواطن وبين وزارة الصحة ونقابة مستوردي الأدوية توجهنا، للاطلاع على حقيقة وضع الدواء اليوم وما ينتظره في الغد. كان خارجاً من لقاء مع حاكم مصرف لبنان الذي أكّد له المؤكد أي عدم استطاعته المضي بدعم الدواء لأبعد من آخر السنة.
الحاكم يصرّ أن الطابة ليست في ملعبه وأن دعم الدواء بسعر 1500 لم يعد ممكناً. اما د. غسان الأمين فيرى من جهته ان الانتظار غير مقبول ولا يمكن الوقوف مكتوفي الأيدي حتى يصبح رفع الدعم واقعاً لا مفر منه في ختام العام. برأيه لا بد من جلسة مصارحة واضحة وشفافة توضع فيها الأرقام الصحيحة بين حاكمية مصرف لبنان ووزارة الصحة على الطاولة، وعلى ضوئها يتم التنسيق بين نقابة الصيادلة ومستوردي الدواء وخبراء وزارة الصحة والمصرف المركزي لوضع تصور ما. لكن التنسيق بين مختلف الأطراف المعنية غائب كلياً، فلا الوزارة قادرة على وضع خطة لأنها لا تعرف ما هي المبالغ المتوافرة ولا الحاكم يعلن بوضوح كم تبقى لديه من مبالغ للدعم، ولكن ما هو مؤكد ان الصيدليات تعاني من نقص في عدد كبير من الأدوية ومخزونها قد تراجع من ستة اشهر الى شهر ونصف والمواطن يعاني من صعوبة في إيجاد دوائه.
والمشكلة لا تكمن فقط في سعر الدواء كما يؤكد نقيب الصيادلة بل في المؤسسات الضامنة التي إذا احتسب سعر الدواء مثلاً على سعر 4000 للدولار فإن ميزانياتها سوف لا تكون قادرة على مواكبة ارتفاع السعر وسيضطر حاكم مصرف لبنان الى دعمها منعاً لإفلاسها وإغراق البلاد بكارثة. هي حلقة مفرغة اذاً وحلها بالحوار فقط وتعديل الأوضاع بما يتماشى مع الإمكانيات. فالدواء يجب ان يؤمن للناس وبنوعية جيدة، وبين دعم مطلق بمليار دولار أو رفع الدعم بالكامل يمكن إيجاد حل وسط من خلال خلق صندوق خاص لدعم الدواء، نصفه من مصرف لبنان ونصفه الآخر من مصادر أخرى يتيح استمرار الدعم لمدة 9 اشهر بدل الثلاثة المتبقية.
كذلك لا بد من تغيير الاستراتيجية الدوائية بأكملها عبر تأمين أدوية مضمونة وآمنة إنما بأسعار أرخص، مثل أدوية الجينيريك التي يمكن ان تحل محل الأدوية المعروفة. المهم عدم ترك الأمور على حالها حتى نهاية السنة بعد أن تكون الفأس قد وقعت على الرأس وحلت الكارثة.
الحلول إذاً ممكنة وموجودة فلماذا التهويل والتهديد ومن المستفيد من خلق حالة الهلع بين المواطنين الذين خسروا أموالهم وآمالهم وباتوا اليوم مهددين بخسارة صحتهم.