في إطار المحاولة لحلّ لغز اختفاء الدواء، أطلقت مبادرة الإصلاح العربي، قبل أسبوع تقريباً، دراسة عن كيفية… إبقاء الأدوية على رفوف الصيدليات. لم تحمل الدراسة أكثر من صيغتين مبدئياً للحفاظ على آخر الحقوق الصحية للمرضى، أولاهما تغيير نظام الدعم على قاعدة تخفيف تكلفة الفاتورة الدوائية مع الحفاظ على الفعالية، وثانيهما إطلاق المنصة الرقمية للوصفات الطبية. صيغتان في حال طبّقتا قد يسهل معهما تخفيض الفاتورة الدوائية التي تصل كلفتها في لبنان إلى مليار و600 مليون دولار أميركي
ترتهن، اليوم، صحة المواطنين وأدويتهم بالأموال المتوافرة للدعم في حوزة مصرف لبنان المركزي. فكلما خرج الحاكم ملمّحاً إلى تناقص «مال الدعم»، تفقد أدوية من السوق. هكذا، من دون سابق إنذار، تصبح حياة الكثيرين من المرضى على المحك. وفي كل مرة يحدث ذلك، يعاد السيناريو التالي: يتجه مستوردو الأدوية وأصحاب المستودعات نحو تقنين توزيع الأدوية على الصيدليات، وتبدأ بورصة الأدوية المفقودة بالعمل، ثم يدبّ الذعر. لا أحد يعرف كيف يحدث ذلك ولا حتى كيف تسكّن تلك الأزمة المستمرة منذ ما يقرب من ثمانية أشهر.
الضالعون في أرق الناس وخوفهم على حقهم بالدواء كثر، من حاكم مصرف لبنان إلى محتكري هذا القطاع من المستوردين إلى أصحاب المستودعات وصولاً إلى المهربين. وعلى رأس هؤلاء كلهم تأتي الدولة بسياسة الدعم التي لا تعدو أكثر من كونها قناة للتوزيع. أضف إلى ذلك السبب الآخر، والذي لا يقل أهمية، وهو الذي يتعلق بضعف الصناعة الدوائية الوطنية التي تجعل صحة الناس تحت رحمة التجار، والسياسة الدوائية المعكوسة التي يتبعها لبنان؛ ففي كل دول العالم تستحوذ أدوية «الجينيريك» على 80% من الفاتورة الدوائية مقابل 20% لـ«البراند»، إلا في لبنان العكس، وبكلفة تصل إلى مليار و600 مليون دولار سنوياً (منها 250 مليون دولار فقط للأدوية الجينيريك). لكل هذه الأسباب، لا يتوقف مسلسل انقطاع الأدوية، والذي طال في الفترة الأخيرة أدوية أمراض مستعصية ومزمنة، ومنها أدوية لمرضى السرطان والسكري والقلب.
إلى ذلك، لا يبدو أن الأزمة وصلت إلى آخر النفق، بدليل استمرار خطر توقف الدعم في أي لحظة، في ظل عدم التوصل إلى حلول إلى الآن في ما يخص تقرير استمرار الدعم من عدمه، ولا حتى في ما يخص كمية الأموال المتوافرة لدى مصرف لبنان للدعم. أضف إلى ذلك الرد الذي تلقّاه لبنان من البنك الدولي لناحية رفضه المساعدة في قطاع الأدوية بذريعة «غياب الإصلاحات».
واليوم، لا مجال لرفع الدعم. هذا أمر أكيد، لأن من تبعات ذلك «أن تحصل خلافات بين الناس في الشوارع»، هذا ما يقوله رئيس لجنة الصحة النيابية، عاصم عراجي، وما ذهب إلى تأكيده نقيب الصيادلة، الدكتور غسان الأمين، بالإشارة إلى أن «الناس سيقتتلون في الشوارع لأخذ علبة دواء». إلى الآن، لم تفضِ القرارات الرسمية إلى شيء، رغم الاجتماعات المتلاحقة في السراي الحكومي، وإن كان عراجي يأخذ على الأخيرة أنها «محصورة بمن هم فوق»، ولم تأخذ إلى الآن بملاحظات لجنة الصحة النيابية التي تعمل على إعداد خطة لترشيد الدعم. أما أبرز ما تركز عليه تلك الخطة، فهو «تخفيف» الدعم على أدوية الـ»otc» الخفيفة التي لا تحتاج إلى وصفات طبية ودعم الأدوية المزمنة مع «ترشيدها» التزاماً بلائحة الأدوية لمنظمة الصحة العالمية. لا بديل من تغيير آلية الدعم بحسب عراجي لتخفيف التواءات السياسة الدوائية في لبنان، التي وصلت حد «أننا في لبنان لدينا 5000 دواء مسجل، فيما لائحة أدوية منظمة الصحة تبلغ 1200 دواء»!
«استَعار» عراجي فكرة الترشيد في خطته من مجموعة «مبادرة الإصلاح العربي» التي أعدت هي الأخرى دراسة تقترح حلولاً للدعم، الذي «لا حول ولا قوة» إلا به حتى الآن، في ظل استعصاء البدائل الأخرى. وتأتي هذه الحلول في إطار العمل على فك لغز اختفاء الأدوية من خلال التركيز على عاملين اثنين: أولهما تغيير نظام الدعم وصولاً نحو ترشيده، وثانيهما إطلاق منصة رقمية للوصفات الطبية. وهنا، لا انفصام بين العاملَين، لناحية مؤازرة أحدهما للآخر، وضمان عدم فقدان الأدوية تالياً عن رفوف الصيدليات وتخفيف الضغط على احتياطيات مصرف لبنان من النقد الأجنبي. والأهم من ذلك كله، التأكد من أن الأدوية المدعومة، تحت هذين البندين، ستصل إلى المرضى المستهدفين.
في الشق الأول من الحل، تقترح المبادرة خفض التكاليف انطلاقاً من تطبيق مبدأين أساسيين: «استيراد أرخص الأدوية من دون المساس بالتأثير العلاجي». كيف ذلك؟ تشير المبادرة مثلاً إلى أنه بدلاً من أن يدعم مصرف لبنان 20 اسماً تجارياً مختلفاً لدواء أتورفاستاتين الذي يستخدم للوقاية من أمراض القلب والأوعية الدموية تراوح أسعارها ما بين عشرة آلاف ليرة و43 ألفاً – وهو يفعل ذلك اليوم – يمكنه عندها أن «يسهم في دعم منتجين فقط يتم اختيارها بناءً على تأثيرهما العلاجي القوي وسعرهما المنخفض». وثمة عوامل مساعدة كثيرة هنا في تقرير جانب الكلفة، إذ يمكن على سبيل المثال لا الحصر «عند البحث عن أدوية أرخص التفتيش عن الأدوية التي انتهت صلاحية براءات اختراعها».
تضم لائحة أدوية منظمة الصحة العالمية 1200 دواءً فيما تضم «اللائحة اللبنانية» 5000 دواء
من الطبيعي أن يفسح هذا الإجراء المجال أمام تعزيز المنافسة في السوق، حيث من المفترض أن تنعكس هذه السياسة على سياسة المستوردين لناحية خفض أسعارهم. أما اقتراح دواءين فقط، فينبع من دافعين أساسيين، أولهما إلغاء الاحتكار، وثانيهما إفساح المجال أمام الصناعة الوطنية لإثبات جدارتها من خلال «اعتماد دواء محلي مقابل الدواء المستورد». وما يدعم هذا الخيار أن «الكثير من الأدوية التي تعالج حالات مرضية مختلفة تصنّع محلياً ومتاحة في الأسواق».
وخوفاً من انزياح الخطة عن هدفها، دعت المبادرة إلى ضرورة أن تخضع العلامات التجارية المصنعة للأدوية التي تستحق الدعم «لأعلى درجات الشفافية الممكنة»، لافتة في هذا الإطار إلى إمكانية اللجوء إلى «قائمة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، والتي تضم أسماء أدوية مشمولة بالتغطية لتحديد تلك التي ستستفيد من الدعم الموجه للاستيراد بشكل عام». وفي حال نجاح هذه الخطوة، تأتي الخطوة الثانية «الأكثر جرأة»، والتي يتعيّن من خلالها إجراء تحليل فعالية التكلفة الذي يمكن استخدامه للاختيار بين الأدوية غير المتطابقة من حيث الجرعة أو التأثير العلاجي، ولكنها تستخدم لعلاج الحالة السريرية نفسه، مثل خافضات سكر الدم وضغط الدم.
ماذا يعني ذلك؟ ببساطة، يعني أن لا انقطاع للأدوية. وعندما تصبح البدائل المدعومة متوافرة في السوق، سيتم عندها «إعادة تسعير البدائل غير المدعومة وَفقاً لسعر الصرف الحقيقيّ في السوق»، بحسب ما تنص المبادرة. ومن الجهة الأخرى، لن يعني هذا الدعم تحييد علامات تجارية غير مدعومة، إذ ستستمر هذه في السوق، ولكنها ستكون محصورة «بالمرضى المستعدين والقادرين على تحمّل تكاليفها».
أما في الشق الثاني من العلاجات، فتأتي الحلول لمعالجة أزمة تخزين الأدوية في المنازل، من خلال نظام الوصفات الطبية الإلكتروني. والمسؤولية هنا تقع على عاتق وزارة الصحة من خلال اتخاذها القرار الجريء «الذي يسمح للأطبّاء بتقديم الوصفات الطبيّة عبر الاتّصال الهاتفيّ بالصيدليّات التي يطلبها المرضى، على أن يقوم الصيادلة بتوثيق تلك الطلبات في أنظمتهم الحاليّة الخاصّة بالتوثيق». ويمكن لهذا التطبيق أن يأتي بهدفين، أولهما منع التخزين، وثانيهما «تعقّب المبيعات»، وهو ما يمنع تالياً الغشّ والتهريب والفساد، ويُتيح قدرة أفضل على تحليل سلوكيّات المستهلكين ومقدِّمي الوصفات الطبيّة، أطباء وصيادلة.