ظنّ الشيخ أسامة الأزهري في مناظرته التلفزيونية الاسبوع الماضي مع الباحث إسلام البحيري أنه سدد ضربة قاضية الى محاوره عندما رفض وجود منهج لتعليم أصول الدين والفقه خارج المنهج الأزهري.
استعان الأزهري بمقارنة تبدو مُفحمة في ظاهرها، قائلاً ان من يحوز على شهادة في الطب في ماليزيا يستطيع ان يعادلها في بريطانيا وان يمارس مهنة الطب بعد ذلك. واعتبر ان الأمر ذاته يصح على دراسة الفقه وأصول الدين بحيث لا يستطيع التحدث فيهما او ابداء رأيه من لم يمر في مراحل التعليم المنهجي الذي اعتمده المسلمون على امتداد مئات الأعوام. وأضاف اذا قرر شخص ما قراءة كل ما كتب في الطب من مؤلفات ودراسات، فهذا لا يجعل منه طبيباً والشيء ذاته ينطبق على قارئ كتب الفقه والدين.
لم يستطع البحيري، لهزال تكوينه الثقافي، التقاط نقاط الضعف الفاضحة في هذا الطرح. ولم يتمكن من ملاحظة الفارق الهائل بين مسألتي تعلم الطب ودراسة العلوم الانسانية، ومنها الفقه والدين والتاريخ والعلوم الاجتماعية والفلسفة واللغة والآداب وغير ذلك.
الخلاف الجوهري بين تعلم الطب وما يدخل في باب العلوم الحديثة ودراسة الآداب والأديان والتاريخ، يكمن باستناد الأول الى المنهج التجريبي الذي افضى تراكم العمل به الى تحوله الى منهج علمي يقوم على معادلات واضحة ودقيقة وعلى مقدمات ونتائج تتشابه في التطبيق عند اجرائها في أي مكان من العالم. وهذا ما يفترض ان يعرفه أي طالب ثانوية عامة. المنهج التجريبي يجعل دراسة الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء بفروعها كافة، شديدة التشابه في كل جامعات ومعاهد العالم، ولا يبرز الفرق سوى في مستوى الالتزام بالمنهج ودرجة اعداد الاساتذة وسعيهم الى نقل علمهم الى طلابهم.
لا يستقيم ذلك مع العلوم الانسانية، لسبب بسيط وهو انها لا تقوم على معادلات رياضية أظهرها وأثبتها التجريب والتكرار والتوصل الدائم الى النتائج ذاتها بعد توفير المقدمات ذاتها. سياقات الثقافات والتواريخ والمجتمعات شديدة التباين في ما بينها. ولا يصح مقارنة الادب الصيني وتطوره وموضوعاته ومواقف كتابه بأدب اميركا اللاتينية على سبيل المثال. حتى طريقة التدرج الأكاديمي التي سادت العالم وخصّت دارسي الأدبين بشهادات جامعية متشابهة، لا تجعل من حامل دبلوم الادب الصيني مطلعاً على الأدب الاميركي اللاتيني بخلاف الطبيب الماليزي ونظيره البريطاني، على سبيل المثال، اللذين يتعين عليهما ان يتشاركا في اساسيات لا غنى عنها لاعتبارهما طبيبين.
عليه، ينهض سؤال آخر. لماذا يفترض الأزهري أن صمود المنهج المعتمد في تدريس الفقه مئات الأعوام ونقله هو المنهج الصائب؟ بكلمات ثانية، هل ثبات منهج دراسي طوال قرون دليل صحته حتى لو تبناه مئات الشيوخ والأئمة والمفسرين؟ الا يعقل ان ثمة “حقيقة” ثانية امتنع هؤلاء عن مقاربتها لعلة أو لأخرى؟
الرد على التساؤلات هذه يأتي من التراث العربي – الاسلامي قبل غيره وهو: نعم، ثمة تفسيرات وتأويلات عديدة عمل عليها الفقهاء والعلماء المسلمون ولم يقل اصحابها ايماناً او اقتناعاً بالدين عن أصحاب المنهج الذي يراه الازهري منهجاً صائباً. لن نتحدث هنا عن احتكار الحقيقة في منهج او مذهب بعينهما، لكن كان على الازهري الذي تقدمه وسائل الاعلام الرسمية المصرية هذه الايام كرمز لرجال الدين الشباب المطلعين على ثقافة العالم، ان ينتبه الى الخط الواضح السائر من كلامه الى كلام ومواقف التكفيريين الذين يقول انه يحاربهم. انه جدل السلطة والنص بذات اللبوس القديم…