تصل من سوريا وإيران وتركيا ولندن
أرجوكم، بربكم، وحياة من خلقكم، باللهِ عليكم، أريد دواء السكري Forxiga… أريد دواء Zoloft… أريد Depakine… Duloxetine… Zinasen… Novonorm… Duphaston… Crestor… أدوية أدوية يطلبها محتاجون ويتحكّم بها تجّار و”حملة شنطة”! فيا لهول ما يعيشه اللبنانيون الذين أصبح أقصى طموحهم دواء أو مرادفاً لدواء من سوريا، من تركيا، من إيران، من بلاد الماو ماو. فهل بهذا النوع من الأدوية يكون المرضى في أمان أم أن الأمان لا وجود له في بلدٍ يحكمه علي بابا والأربعين حرامي؟
فلنبدأ من نكتة إستعان بها نقيب الصيادلة غسان الأمين وهو يحدد لنا ما آل إليه “الأمن الدوائي” في لبنان. قال: هل تعلمين لماذا ما عاد وليد جنبلاط يسأل: الى أين؟ لأننا وصلنا”. سؤال وجواب على شاكلة نكتة “موجعة” من وحي ما نعيشه.
همسات كثيرة نُنصت إليها: هل تريدون دواءكم المفقود من تركيا؟ هل تريدون مماثلاً له، نفس التركيبة، من سوريا؟ ونقرأ إعلانات من نوع: تأمين أدوية من تركيا. نؤمن أدوية من سوريا. من يحتاج الى دواء من تركيا فليتصل على الرقم (…). والإجابات على هكذا إعلانات تشي بأناسٍ ملتاعين على صحة أب وأم وطفل بحاجة الى “إكسير دواء”: دخيلك أنا بدي… دخيلك عمفتش ع دوا…”.
فلنتعقب “سوق الدواء السوداء” التي اصبحت ملاذاً لكثيرين. سميّة تسأل كل سائل عن دواء: هل تريد دواء مماثلاً، بذات التركيبة، لكن سوري المنشأ؟ كثيرون يترددون في البداية لكن لا يطول الوقت بهم كثيراً قبل أن يعودوا ويجيبوا: نعم. فكيف تعمل بثينة ح.؟ كيف تتم عملية نقل الأدوية “بالشنطة” من سوريا الى لبنان؟ تجيب: “الأدوية، صناعة دمشق أو حمص أو حلب، تنتقل بالتهريب. ونستطيع تأمين نحو 90 في المئة من الأدوية المماثلة من هناك خصوصاً منها المخصصة للأمراض المزمنة”. ماذا عن أكثر أنواع الأدوية التي يطلبها اللبنانيون؟ “أدوية القلب والشرايين والسكري”.
صناعة سورية – إيرانية
صيدلية سوريا
قبل حين، ونحن في مخيم برج البراجنة، لفتتنا آرمة على دكانة أدوية: صيدلية سوريا. فهل يمكن أن يشتري اللبنانيون نفس الأدوية السورية من المخيمات الفلسطينية؟ تجيب بثينة: “هناك، في ذلك المخيم الفلسطيني، على مساحة 500 متر مربع نحو 15 صيدلية تبيع الأدوية السورية. مثلا، هناك دواء سوري للسكري، يباع في لبنان بسعر 85 ألف ليرة لبنانية، أما سعر نفس تركيبته في تركيا فـ25 دولاراً. لذا، التركيز اليوم هو على الدواء السوري”. هي تذهب الى المخيمات وتشتري من كل صيدلية علبة دواء أو إثنتين، حسب “التوصاية” المسبقة، وتعود وتعطيها الى اللبنانيين الذين يبحثون بالسراج والفتيلة عن دواء مفقود، أو نفس تركيبة لدواء مفقود، علّهم يبقون أحياء في بلد ناسه أشبه بموتى يتحركون. وتقول: يومياً هناك على الأقل أربعة طلبات أؤمنها مقابل هامش ربح لا يتجاوز نصف دولار عن كل دواء. تضيف: دواء الكوليستيرول liponom 20/10 آتي به بسعر 40 ألفاً بينما يباع هنا في صيدليات كثيرة بسعر 600 ألف ليرة.
أبو فراس… إكسبرس
هامش ربح بثينة بسيط. وهدفها، على ما قالت “أن يشتغل شقيقها “دليفري” فيتقاضى ربحاً إضافياً. ممتاز. هي تلبي حاجة أناس تخلت عنهم دولتهم. لكن، ماذا عن أبو فراس الذي يأتي بالأدوية، حسب التوصية، من تركيا؟ ماذا لو أردت الحصول على دواء أو إثنين عبره؟ يجيب: “أحتاج الى أسماء الأدوية واضحة وآتي بها إما من تركيا أو الخليج أو لندن. وأتقاضى عن كل دواء مبلغاً إضافياً هو كلفة الشحن ونحو دولار أو أقل بقليل لنفسي. ويستطرد: حالياً، لديّ كمية أدوية حلوة كويسة سأرسل لك أسماءها لتختاري ما يعجبك”. أشعر وأنا أصغي إليه أنني أمام تشكيلة ملابس أو محل مجوهرات فيه ما يشبع الذوق. أقلّب في أسعار الأدوية “الكويسة” فأقرأ عن وجود دواء السكري Janumet بسعر 33 دولاراً، يعني إذا حسبنا الدولار بعشرين ألفا يكون السعر بعملتنا الوطنية الحبيبة: 660 ألف ليرة. أفكر بجارتنا التي تعيش من قلة الموت، وهي “عالحديدة”، كيف ستدفع ثمن علاجها؟ ترى هل سيُبدل طبيبها لها الدواء؟ ماذا لو وصف لها دواء forxiga؟ أبحث في ورقة أبو فراس عن سعره من الخارج فأجده 36 دولاراً. معناه ستدفع 720 ألف ليرة. يبدو أن “جارتنا” ستتمنى في منامها، مليون مرة، لو ماتت أمس!
أتصل بأبو وليد، بأبي همام، بالست رولا…. أسماء كثيرة “تتاجر” بالأدوية المفقودة في بلدٍ من يُمسكون بمصيره “بلا دم”. هناك من يصمت عن الكلام المباح خوفاً من أن نكون “دزّة” قد تخرب بيتهم، وهناك من يقسم أنه بدأ هذا العمل للتوّ لقاء “ولا شي”. فالخدمة العامة هي دافعه الوحيد.
تحطيم أسعار
أحمد، يؤمِّن بدوره الأدوية “توصايي” من سوريا ولديه الكثير ليقوله: “أؤمن الأدوية والإستلام في أقرب نقطة تناسبكم بين الصياد والسفارة الكويتية. أرسلوا لي صوَر الأدوية فأرسل إليكم الأدوية البديلة كي تكون الأمور واضحة بيننا. والدفع بالعملة اللبنانية طبعاً. وأسعاري دائماً أقل من كل الآخرين. فلنأخذ بديل الدواء المدر للبول “لازيكس” أؤمنه من سوريا بسعر 25 ألفاً في حين يبيعه آخرون، من سوريا أيضا، بسعر 35 ألفاً. أدوية حماية المعدة أيضاً يبيعها غيري بسعر 37 ألفاً أما أنا فأبيعها بسعر 23 ألفاً”. شاطر أحمد في التجارة وفي تقديم “التخفيضات” كي يبيع أكثر ويربح طبعاً أكثر. لكن، كيف يأتي بالأدوية من سوريا؟ يتحدث “الشاطر” عن طرقات مقفلة أمام اللبنانيين الذين ينوون الذهاب الى سوريا وشراء الأدوية بأنفسهم “بسبب كورونا”، ويضيف: “عند طلب الأدوية أحتاج الى ثلاثة أيام لآتي بها. وأنا لا أعمل إلا بالأدوية السورية البديلة، من خلال “تهريبها”، وبالكاد أستطيع أن أحمل معي 25 علبة دواء. ومثلما تعرفون أجرة الإنتقال بين هنا وهناك، وبالعكس، باتت مكلفة. من دمشق الى بعلبك 500 ألف ليرة على الراكب الواحد. لذا أضع أرباحاً لكن قليلة”.
ويغوص “بائع الأدوية” في الوضع السوري ويقارن بين قدريّ “الشعب الواحد في بلدين في قطاع المحروقات ايضاً: “هناك، تعطي الدولة 100 ليتر بنزين في الشهر كمخصصات لأصحاب المركبات ومن يحتاج الى أكثر يدفع ثمن الصفيحة الواحدة ما يعادل 450 ألف ليرة لبنانية. هناك شيء آخر لا يُذكر، بحسب أحمد، وهو أن اللبناني، ولو مضى على وجوده هناك مئة عام، لا يأخذ مخصصات، إلا إذا كان متزوجاً من سورية. أما هنا، في لبنان، فالسوري كما اللبناني كما الفلسطيني كما الأميركي كما الإيراني، الكلّ يحصل على نفس الدعم”. فلنعد الى الأدوية، هل أسعارها رخيصة كما نسمع؟ يجيب أحمد: “الأسعار ارتفعت بسبب انخفاض قيمة العملة اللبنانية، حيث كانت كل الف ليرة سورية قبل ثلاثة أشهر تعادل 3000 ليرة لبنانية، أما اليوم فأصبحت تعادل 6700 ليرة. الليرة السورية أصبحت شبه ثابتة أما اللبنانية فلا تزال تنخفض”.
“رضينا بالمرّ والمرّ ما رضي فينا”. هذا حالنا في لبنان. والأدوية السورية تدخل الى لبنان تحت “قبة باط” من الدولتين اللبنانية والسورية، وربما وفق قاعدة “اعطونا بنزيناً وخذوا دواء”. وفي الحالين نحن الخاسرين.
لا أمان
ما رأي نقيب الصيادلة غسان الأمين بهذا المشهد “الدوائي” الذي انزلق إليه لبنان؟
يؤكد النقيب أن “النقابة تلاحق مثل هؤلاء الذين يقومون بالإتجار بالأدوية بلا شرعية قانونية ونحن نرسل الى الوزارات إخبارات بهم لأن لا حق لنا مباشرة بمنعهم. سلطتنا هي على الصيدليات لا على حملة الشنطة. وخوفنا هو أن لا احد يعرف كيف يجيء هؤلاء بالأدوية من الخارج، وكم تمكث في الشمس، وأين يتم تخزينها. ثمة شروط لنقل كل دواء لا أحد قادر أن يُحددها في حالة هؤلاء”. هل هذا معناه أن من يجد دواء “مهرباً” بالشنطة ليس في أمان مطلقاً؟ يجيب: “فلنسلّم جدلاً أن أحدا ما ذهب الى سوريا أو الى تركيا وجلب معه عشرة أدوية، وضعها في “تابلو” السيارة، في حرارة آب العالية، فهل يمكننا الجزم في الحالة التي تصل فيها الى المستهلك؟ طبعاً لا. لذا، نطالب وبإلحاح التنبه الى هذه الظاهرة.
واصلة لعندكم
أزمة الأدوية مستمرة بحسب نقيب الصيادلة ويشرح: “مصرف لبنان مسؤول عن الأزمة لأنه ليس صادقاً في موضوع الدعم أبداً. فيا ليته اعترف بأنه لن يدعم بدل أن يظل يراوغ. ليته قال: أطالب الحكومة وحدها بأخذ القرار. فما نعيش فيه اليوم أشبه بالفراغ الهائل، والطبيعة لا تحب الفراغات، فحين تُصبح الأدوية مفقودة فسيأتي الدواء المهرّب والدواء المزور والدواء “الزبالة”. فليؤخذ القرار الصحيح، أقله في هذا القطاع الصحي الدوائي، ولتفتح المستوصفات لمن لا يستطيع تكبد سعر الأدوية الباهظة، وليُأت بأدوية الجينيريك، أما من لديه المال فليشترِ الدواء غير المدعوم. فلتتحرك الحكومة الآن. فلتضع خريطة وخطة وإلا دخلنا الجحيم”.
ندخل الى صيدلية في بيروت. ننتظر في الصف. نسمع رجلاً يكاد يبكي قائلاً: والله العظيم عمطعمي بنتي، وعمرا شهرين، خبز مغمس بالميّ”. يخرج محنياً رأسه، وثقل الدنيا فوق منكبيه، لعدم حصوله على حليب لطفلته. يأتي وراءه من يقول للصيدلي: أنا من قِبل ماجد. بدي علبتين حليب”. يدخل الصيدلي الى غرفة محاذية ويعود حاملاً علبتين قائلا له: “خبئهما جيداً”. إننا نعيش حقاً في الجحيم.
ماذا بعد؟
خبران. فلننتبه إليهما جيداً. الأول، ها هو وزير الصحة حمد حسن قد تلقى للتوّ رسالة من نظيره السوري يبدي فيها جهوزية بلاده “لإمداد لبنان باحتياجاته من الأصناف الدوائية التي يتم إنتاجها في سوريا”. الخبر الثاني، الأدوية الإيرانية تغزو الصيدليات السورية بعدما دخلت إيران، منذ أعوام ثلاثة، على خط الإستثمار في مجال التصنيع الدوائي في سوريا. والسوريون يتذمرون من قلة فعاليتها. يعني، دخلنا في لبنان في دهليز الأدوية السورية – الإيرانية على “الهينة والمستريح”! ونحن في كل ما يصيبنا كمن يتجرع السم رويداً رويداً. واللبناني المسكين، الذي ما زال يراهن على إمكانية حلّ وقرب ولادة حكومة، بين فكيّ كماشة: دواء مفقود… أو دواء بلا مواصفات علمية واضحة. والآتي أعظم.