IMLebanon

قطع الدواء جريمة بحق الإنسانية

 

 

يتّخذ الفساد في لبنان طابعاً حاداً ويجتاح شرائح المجتمع، وأخطر درجاته تتجلى في تنامي ظاهرة تهريب الدواء واحتكاره، وهي جريمة كريهة تفشّت في الأوساط اللبنانية، نتيجة طمع الصيادلة ورغبتهم بتحقيق المكاسب غير المشروعة على حساب صحة المرضى وآلامهم.

 

ولا مجال هنا للتوقف عند الجدل الذي سوف يتناول الدوافع الحقيقية لانعدام الأخلاق والإنسانية وروح المواطنة، وإنما حول تلطّي البعض بالشعارات الطائفية المزيفة كغطاء لعملهم الإجرامي، ولإخفاء وجههم القبيح عن سائر اللبنانيين، فشتّان بين الطائفية والدين، فالدين رسالة تدعو إلى قيم مشتركة سامية كالمحبة والرحمة والحرية والعدالة والمساواة والاستقامة والصدق والأمانة، فيما الطائفية عصبية تدعو إلى كراهية الآخر ونبذه، وبذلك فهي تزلزل المجتمع وتهدّده بأفدح الأخطار.

 

والفساد آفة محلية عكف على تحرّي مسبّباتها جميع باحثي علم الإجتماع والأخلاق والسياسة، وتوافقوا على أنها وليدة إحلال المال في قمّة القيم من دون الالتفات إلى طريقة تجميعه، والانحطاط في الأخلاق. فعندما يباع الضمير ويغدو لكل شيء ثمن بالليرات والدولارات، نكون نتحدث عن الحالة المزرية التي وصلنا إليها، حيث أضحى المال هو المعبود والوسيلة لإحقاق الحق أو بلوغ مأرب أو الفوز بمنصب، ولم يعد للشعور بالواجب مكان، ولا للمسؤولية الوطنية اعتبار، ولا للمناقب المهنية دور، ولا للإلتزام الوطني وزن.

 

إنّ تكليف القضاء وضع يده على هذه الفضائح نظراً لما يتمتّع به من استقلالية وإمكانات، هو خطوة في الطريق الصحيح، وإن جرى في ظل حكم يعاني من تدنّ في رصيده السياسي وانتقادات لأدائه الوطني. صحيح أنّ اللجوء إلى القضاء يستسيغه الرأي العام المتعطّش إلى دولة القانون والعدالة، ولكن الجدوى هي رهن بالحدّ من انتشار هذه الجريمة الشنيعة، التي راح ضحيتها العديد من الشهداء نتيجة رفض الصيادلة المهرّبين الاستماع إلى مناشداتهم بتسليمهم ولو حبّة دواء؛ وذلك من خلال توقيف المجرمين، وتشديد العقوبات عليهم، لا أن يتقرّر في نهاية المطاف استبدال الحبس بالغرامة، وتدريك هؤلاء القتلة مبالغ مالية بسيطة، كما يحدث في العديد من الأحكام. فالخوف أن تقتصر الأحكام على المعاقبة بجريمة الاحتكار التي تعدّ جنحة، لا جناية في قانون العقوبات اللبناني، وهي أخف الجرائم عقوبة، فالمادة 685 من قانون العقوبات تطبّق على المحتكر عندما يكون قادراً على التأثير في سعر السوق عبر ضبط البضاعة للتلاعب بالعرض والطلب، عقوبة تتراوح بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين وبغرامة مالية. وقد حدّدت المادة 43 من المرسوم الاشتراعي رقم 38/37 عقوبة جرائم الاحتكار بالغرامة من عشرة ملايين ليرة إلى مئة مليون ليرة، وبالسجن من 10 أيام إلى ثلاثة أشهر، أو بإحدى هاتين العقوبتين.

 

في حين يجب على القضاء أن يقوم بالادعاء على المحتكرين بجرم القتل أو محاولة القتل وفقاً للقصد الاحتمالي المنصوص عليه في المادة 189 عقوبات، لأن الجريمة تعدّ مقصودة وإن تجاوزت النتيجة الجرمية الناشئة عن الفعل أو عدم الفعل قصد الفاعل، إذا كان قد توقع حصولها فقبل بالمخاطرة. كما يجب أن يتشدّد العقاب، لأنّ الدولة قد غطّت الفارق بين سعر الدواء المدعوم والسعر الحقيقي له، وبالتالي فهنالك نهب لأموال الشعب ولضرائب المواطنين، يتوجب محاسبة المسؤولين عنه.

 

وفي أي حال، فالقضاء اللبناني، وإن لم يستعد عافيته كاملة نتيجة ممارسات البعض السلبية بحقه، إلا أنّه الجهاز الوحيد في الدولة الذي يجسّد حكم القانون، والذي يعوّل عليه لإنصاف الشهداء والمرضى المألومين.

 

والخوف اليوم من أن تتداخل السياسة في عمل المحاكم، وفي حال تحريك وابل المحاكمات بحق المجرمين، ما قد ينعكس سلباً على عمل القضاء، ومن أولى المخاطر التي قد تنجم عن ذلك، هي إصابة الرأي العام بخيبة وصدمة، بحيث ينظر إلى العدالة حينها بأنها انتقائية خاضعة للاعتبارات السياسية، هذا مع العلم بأن اعتماد الحكم السرّية والعمل في الكواليس يغذّي هذه المخاوف. وتحاشياً لذلك، وصوناً للعدالة، ومنعاً من طمس القضايا، على القضاة أن يُعلّوا الصوت بوجه كل من يحاول عرقلة عملهم، ومنعهم من إصدار الأحكام، ولو توجّب ذلك التضحية بمصيرهم المهني، لأن العمل القضائي يجب ألا يؤدي خدمات وإنما يحقق رسالة العدالة مهما علت الصعاب واشتدّت الأزمات. وهكذا بموازاة الملاحقات الجزائية، لا مناص من تقديم الدعم إلى القضاء، لا سيما من قبل وسائل الإعلام، التي باستطاعتها أن تتابع مجرى القضية حتى النهاية، وتضيء على التجاوزات والتدخلات، وتكوّن رأياً عاماً مسانداً لاستقلالية عمل القضاة ووجوب تحريرهم من براثن السلطة.

 

لذلك، فإن محاكمة التهريب والاحتكار، باتت قضية في منتهى الحيوية، ولا بدّ من مكافحتها بأوسع نطاق. وليس هنالك أمام المسؤولين سوى الإقدام على اتخاذ تدابير وإجراءات، على ألا تكون ذات طابع مسرحي، تدليلاً على إرادتهم الصادقة في التبرؤ من الفساد وإعادة الاعتبار إلى الدولة. وهذا يفترض عملاً دؤوباً يترفّع فيه الحكم ليصبح قدوة، كما يفترض تبديلاً في النهج والإدارة، وإن كلّفه هذا الأمر تقديم التضحيات.

 

ومما لا ريب فيه أن الانفتاح على المجتمع المدني يسهّل مكافحة الجريمة، وفضح الفساد ومعالجته، لأن النظام الديموقراطي يحكم على نفسه بالإعدام إن لم يحرك ساكناً حيال هذه القضية الحيوية. ولا أفهم أي شيطان هو ذلك الذي يحجب أدوية السرطان والصرع والسكري والضغط عمّن يصرخ ويئنّ من الآلام والأوجاع، ويتلوى متوسلاً حبة دواء؟ وأي شيطان هو ذلك الذي يحرم الأطفال الرضّع من الحليب، لكي يحقق مكسباً دنيوياً لا قيمة له.

 

وإذا بقيت الدولة صامتة والمحاكم لم تتشدّد بالعقوبات، فيمكن القول بأننا نعيش في كنف نظام فاسد، كما أنّ الديموقراطية تحكم على نفسها بالإعدام إن لم تحرك ساكناً حيال جريمة مفضوح أمرها، كقضية احتكار الدواء.

 

هذا ما ينشده المواطنون الشرفاء الذين لا سبب لديهم ليخافوا من العدالة، وإن كانوا أحياناً يخافون عليها.