كان يمكن وصف نظام تتبّع الأدوية «Medi track» بالإنجاز لو أنه لم يأتِ تحت وطأة أزمة جعلت وجوده سوريالياً، بما أنّه جاء ليمكنن ملفات المرضى في ظلّ انقطاع شبكة الإنترنت. مكننة من دون إنترنت. هذا ما يحدث اليوم في مركز توزيع الأدوية في الكرنتينا، حيث يتوقف النظام بشكلٍ متكرّر بسبب انقطاع الشبكة، معطلاً كلّ الأعمال في المركز… وحياة المرضى
لم يعد فقدان الدواء من مركز توزيع الأدوية في الكرنتينا وحده ما يشغل بال المرضى، بعدما دخل «الإنترنت» شريكاً في همومهم. فقد بات على قاصدي مركز التوزيع أن يحسبوا حساب شبكة الإنترنت قبل حسابات أدويتهم، مع تكرار انقطاعه عن المركز بما يعيق عمل نظام تتبّع الأدوية «Medi track» الذي بات الخلية الوحيدة للعمل هناك: من تسجيل المعاملات، مروراً بتوزيع الأدوية على المراكز في المناطق، وصولاً إلى تسليم الأدوية للمرضى.
منذ اللحظة الأولى لإطلاق نظام التتبّع في المركز، والحظ السيّئ يرافقه. من أخطاء التجربة التي رافقت الانطلاقة، إلى إضراب موظفي «أوجيرو» حيناً، إلى انقطاع تعطّل الشبكة أحياناً أخرى. كلّ هذه العوامل تؤدي نحو دربٍ واحد: رهن حياة المرضى لـ«السيستم». أي لنظام مكننةٍ بلا إنترنت.
وفي الآونة الأخيرة، تكرّرت فترات الانقطاع، إذ كان الأسبوع الواحد يشهد ثلاث محطات من التوقف، آخرها الأسبوع الماضي حين توقف العمل يومين. والمشكلة الكبرى أن أحداً لا يعرف متى تنقطع «أخبار» الشبكة، إذ غالباً يأتي التوقف بلا إنذار، كما هي حال عودتها إلى العمل، لا أحد يعرف أيضاً متى. وفي الوقت بدل الضائع، يمرّ اليوم ببلادة. لا عمل، وفي الوقت نفسه لا قدرة على التعطيل، فيما يتجمّع المرضى عند الأبواب بانتظار خبرٍ قد يُفرج عن أدويتهم، أو على الأقلّ في السؤال عنها ما إن كانت موجودة أو لا.
القلم والورقة
هذه هي الحال اليوم في غالب الأيام في الكرنتينا، التي تنفصل مراكزها في لحظةٍ واحدة عن الواقع، في غياب أيّ حلول مع حصر كلّ الأعمال ضمن النظام. وهذا يعني أن «القلم والورقة» لم يعودا في متناول اليد اليوم لتسيير ملفات المرضى أو طلبات المستوصفات أو مراكز الرعاية وغيرها. مع ذلك، يعمد البعض منهم إلى «التحايل على الواقع والقانون في بعض الظروف الاستثنائية»، يقول أحدهم، إذ يلجأ هؤلاء إلى «العمل من المنزل لبتّ المعاملات التي تتعلق بطلبيات المستوصفات ومراكز الرعاية وتسليم اللقاحات، وإرسال نسخة إلى المركز للتسليم، لأنه في بعض الأحيان يحدث أن يحضر أحدهم من مناطق بعيدة وبناءً على موعد ولذلك نضطر لفعل ذلك». وفي أحيانٍ أخرى، قد يلجأ العاملون أيضاً إلى تسليم بعض الطلبات «على الورقة»، إن كان بالإمكان تسيير الطلبية بتلك الطريقة. ولكن ضريبة هذا الاضطرار تكمن في الجهد المضاعف، إذ «إننا مجبرون لاحقاً على إعادة إدخال هذه المعلومات مجدّداً في النظام لمكننتها». ولا تتوقف الأمور عند هذا الحدّ، خصوصاً أن هامش الخطأ قد يكبر مع الخروج المؤقّت من النظام، وفي بعض الأحيان «مخاطرة» بحسب أحد العاملين، فعدا كونها «مخالفة للقانون، فخطورتها أنني أسلّم على الورق، وقد تحدث أخطاء مثلاً كأن أسلّم على الأرض طبخة دواء ليست هي المكتوبة أو المستهدفة وغيرها من الأمور».
مع ذلك، قد تسري هذه الخيارات، على خطورتها، على طلبات الأدوية للمستوصفات والمراكز وتسليم اللقاحات، إلا أنها لا يمكن أن تسري على أدوية السرطان المحصورة حكماً بنظام التتبّع، خصوصاً مع الأخذ في الحسبان وجود معاملات جديدة بشكلٍ دوري تستوجب تحضير موافقاتها من وزارة الصحة العامة، ما يتطلب الاتصال الدائم بالشبكة. لذلك، لا بدائل ممكنة لمرضى السرطان، ففي غياب الشبكة يُحجب الدواء عنهم حتى لو كان موجوداً. وهو ما يلحق أيضاً بمرضى آخرين من أصحاب الأمراض المستعصية والمزمنة. ويأخذ العاملون هناك على هذا الربط أنه يحبس الدواء عن معظم المرضى «بسبب المعاملات الجديدة تحديداً»، طارحين خيار العمل «أوفلاين» في الملفات القديمة من دون الجديدة. وإن كان سيستتبع هذا الأمر لاحقاً بعمل مضاف لإدخال المعلومات مجدداً، إلا أنه «لا يمكن أن نربط كلّ المرضى بعدد من الملفات الجديدة».
أدوية السرطان: أزمة مستدامة
لا تهدأ طوابير المرضى أمام مركز التوزيع ولا تتغير الوجوه في الغالب، إذ ثمة مرضى كثيرون يحضرون بشكلٍ يومي للاستعلام عن أدويتهم، وعمّا إن كانت موجودة أو لا. وفي الغالب، لا يجدون كل ما يطلبونه. فالحال عند باب الكرنتينا «متل اللوتو… إذا مش التنين بيكون الخميس»، يقول أحد الواقفين في طابورٍ لا ينتهي.
الأزمة في الكرنتينا مستدامة، فالأدوية المتوافرة لا تغطي الحاجات المطلوبة، وما يُفقد «لا نعرف متى سيعود». هذه اللازمة باتت بديهية لدى العاملين هناك. ولئن كانت الأسباب التي تحول دون توفر الدواء بالمطلق معروفة، أو أنها باتت «ممجوجة»، تبدأ بشركات استيراد الدواء ولا تنتهي بلوائح الدعم وأموال المصرف المركزي، إلا أن ذلك «ليس مبرّراً للترك بهذه الطريقة»، يقول بعض العاملين من دون أن يملكوا أدنى إجابة عن حلول ممكنة.
غياب الشبكة يحجب الدواء عن مرضى السرطان حتى لو كان موجوداً
وبسبب هذا الأمر، يضطر العاملون إلى «الجود من الموجود»، والذي لا يكون عادلاً في كثير من الأحيان، إذ إن قسمة الدواء تستوجب تحويل 50% من الأدوية إلى مركز التوزيع في الكرنتينا، و50% أخرى إلى مراكز المناطق. وقد يحدث ألا ينال عدد من مراكز المناطق أي دواء من الكمية الواصلة. يعطي أحد العاملين مثالاً عن أحد أدوية السرطان Zelboraf، إذ وصل من هذا الأخير 10 علب «5 منها لمركز الكرنتينا، فيما يتوجب علينا أن نقسم العلب الخمس المتبقية على تسعة مراكز»!
الهبات وتاريخ الصلاحية
اليوم، يعتمد المركز على الهبات، حيث تعرض إحدى منظمات المجتمع المدني ما يتوفر لديها من أدوية «وننتقي نحن منها ما نحتاج إليه من اللائحة، لكننا لا نأخذ الكميات كلها، لأننا نتتبعّ تواريخ الصلاحية». وهذه واحدة من المشاكل في الهبات، إذ إن الكمية مشروطة بتاريخ انتهاء الصلاحية الذي عادة ما يكون قريباً. أضف إلى ذلك، ثمّة معاناة أخرى في سياق التعاطي مع منظمات المجتمع المدني «بعض المنظمات تحاول أن تضع لنا حدوداً، وقد حدث معنا سابقاً في ما يتعلق باللقاحات أن حاولت إحدى الجمعيات تحديد لمن نعطي وعمن نحجب ورفضنا هذا الأمر».
هكذا يتسبّب انهيار الدولة وغيابها في الوقوع تحت رحمة هبات المنظمات، التي «باتت دورية، ويأتينا من الهبات أكثر مما نحصل عليه في الشراء الذي يبدو وكأنه متوقف».
ولا تلحق الأزمة بأدوية السرطان فقط، إذ إن هناك أمراضاً مستعصية أخرى يفقد المصابون بها أدويتهم، ومنها أمراض «لا يجب أن يفقد علاجها من المركز». ومن الأمثلة على ذلك دواء Advagraf، وهو دواء يستخدمه المرضى الخاضعون لزراعة أعضاء. وإن كان هذا الدواء «مفروضاً إجبارياً لا اختيارياً على المرضى»، فإنه مفقود في الكرنتينا منذ شهرين.