45 سنة مرّت على «اتفاقية برشلونة» لحماية المتوسط، ولا يزال هذا البحر مهدّداً بالتحول إلى بحر ميت. هذه الصورة القاتمة لا تأتي من «متطرّفين» بيئيين دأبوا على التحذير من خطر التلوث على المتوسط، بل من خلال مذكّرة أساسية عُرضت للمناقشة في المؤتمر الـ22 للأطراف الموقّعة على اتفاقية برشلونة الذي عُقد في أنطاليا التركية أخيراً
أنطاليا | ضغوط هائلة يتعرّض لها المتوسط، البحر شبه المغلق وذو النظام البيئي الهشّ، نتيجة ممارسات جائرة لـ 21 دولة تعيش على ضفافه وترمي بكل ملوّثاتها فيه. هذه الضغوط ناتجة أساساً عن الأنشطة البشرية، وأعمال الصيد المكثّف والجائر (ولا سيما صيد البواخر الغربية الضخمة ما يهدّد التنوّع البيولوجي البحري)، وتصريف مياه الصرف الصحي غير المعالَجة للمدن الواقعة على هذا البحر، وكثافة حركة الشحن والنقل البحري والقمامة البحرية والنشاطات السياحية على أنواعها.
هذا ما أكّدته المذكّرة التي رفعتها خطة عمل المتوسط وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى المؤتمر الـ22 للأطراف الموقّعة على اتفاقية حماية البيئة البحرية والمنطقة الساحلية للبحر المتوسط (اتفاقية برشلونة)، والذي عُقد بين 7 و10 الجاري في أنطاليا التركية.
إلا أن اللافت أن المذكّرة لم تأت على ذكر مخاطر عمليات التنقيب والحفر والاستخراج والنقل والتكرير التي تحصل في حوض هذا البحر! ورغم إشارتها إلى الكوارث البيئية الناجمة عن تغيّر المناخ مثل حرائق الغابات وتوقع ارتفاع مستوى مياه البحر ودرجة حرارة سطحه… إلا أنها لم تربط هذه القضية التي اعتبرتها «خطيرة» بأعمال التنقيب في حوضه! واكتفت بزيادة قضية مستجدّة تتعلّق بتسبّب جائحة كورونا في زيادة حجم النفايات البلاستيكية الأُحادية الاستعمال مثل الأقنعة والقفّازات.
لا تتعدّى مساحة المتوسط 1% من مساحة المحيطات، ولذلك فإن أي حادثة تسرب نفطي كما حصل في خليج المكسيك عام 2010 ستكون لها آثار مدمّرة (استمر التسرّب بعد انفجار بئر نفطية نحو ثلاثة أشهر ولا تزال آثاره الخطيرة على الكائنات الحية ماثلة وستستمر لسنوات طويلة). ورغم صغره، يستضيف المتوسط 17 ألف نوع بحري، تشكل بين 4% و18% من الأنواع البحرية المعروفة، وأكثر من 25% منها لا مثيل لها في أيّ مكان آخر. فيما لا توجد دراسات نهائية، ولا سيما في الأعماق البعيدة، تحدّد مكوّنات الأنظمة الإيكولوجية البحرية وتنوّعها، وهو ما كان يُفترض أن يحصل قبل بدء عمليات الاستكشاف والحفر لتحديد المسؤوليات والتعويضات في حال حصول حوادث ونزاعات. ولطالما ذُيّلت الدراسات بعبارات تؤكد ضرورة التعمق أكثر في الدراسة، استباقاً للضغوط التي تشكلها الأنشطة البشرية على الأنظمة الإيكولوجية والأنواع والموائل، قبل الوصول إلى نقطة اللاعودة بعد تخريب هذه الأنظمة، ولا سيما بعد إصابة المحيطات بالتحمّض نتيجة الزيادة في امتصاص ثاني أوكسيد الكربون الناجمة عن تغير المناخ. علماً أن كل تقارير الهيئة الحكومية الدولية المعنيّة بتغير المناخ تعتبر منطقة المتوسط واحدة من أكثر المناطق عُرضة للتأثّر بتغير المناخ. وفي حال المضي في أعمال التنقيب والحفر والاستخراج للنفط والغاز، كما هو مقرر في سياسات الكثير من دول الحوض، لا نعرف ما سيكون معنى إقرار البروتوكول المتعلق بتحديد مناطق محميّة لضمان حماية التنوع البيولوجي!
أيّ حادثة تسرّب نفطي في المتوسط كما حصل في خليج المكسيك عام 2010 ستكون لها آثار مدمّرة
أهم القضايا التي تناولها المؤتمر تتعلق بالاستراتيجية المتوسطية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة وخطة عمل المتوسط بين عامَي 2022 و2027، وحماية البحر من التلوث الناجم عن أنشطة برية وعن السفن التي تُلقي نفاياتها فيه، وعن استكشاف واستغلال الرصيف القاري وقاع البحر وتربته. وكان ملف معالجة مياه الصرف التي تتدفق إلى البحر الأكثر إثارة للجدل، خصوصاً حول الفقرة المتعلقة بضرورة تزويد التجمعات بأنظمة تجميع مياه الصرف ومعالجتها كحد أقصى بحلول عام 2025 للمدن الكبيرة (أكثر من 15000 ساكن) وعام 2030 للمدن الصغيرة (2000 و15000 نسمة). وحصل خلاف حول استخدام تعابير مثل «بقدر المستطاع»، وهو التعبير الذي اعتُمد سابقاً كنوع من المرونة لمنح البلدان النامية مزيداً من الوقت للبدء بالمعالجة المكلفة، واعتُبرت فرصة للتراخي وعدم الالتزام. وبالطبع، فإن غالبية البلدان النامية طالبت بالإبقاء على هذه الفقرة، وكان لها ما أرادت، كما طلبت المساعدة التقنية والدعم المالي لإنشاء محطات تكرير.
كذلك، وقع خلاف على تصنيف «الأماكن الساخنة». ففي حين أشار التقرير ومشروع القرار إلى ضرورة الحد من القمامة النهرية التي تصبّ في البحر، ولا سيما من الأماكن الساخنة (Hotspots)، اعترضت مصر على الفقرة، إذ اعتبرتها إشارة إلى أنهارها، خصوصاً بعد أن أشارت تقارير لمنظمات دولية كبيرة في تقاريرها إلى أن مئات الأطنان من القمامة مصدرها قناة السويس. وتمّت الاستجابة للاعتراض المصري. كما حصل جدل حول تصنيف «المناطق الساخنة» والمعايير التي يتم اعتمادها وكيفية التحقق، ولا سيما حول القمامة البحرية التي تتجمّع في أماكن محددة من دون أن يُعرف مصدرها الحقيقي. كذلك احتدم الجدل حول كيفية وضع البيانات التي تُبنى عليها الاستراتيجيات والسياسات، خصوصاً أن هناك تشكيكاً في أرقام بعض الدول حول أنواع التلوث والنسب والكميات، وصعوبة أن يتم التحقّق منها، خصوصاً عندما يتعيّن طلب المعلومات من مراكز حساسة مثل النفايات النووية لبعض الدول والتي تدخل ضمن ما يُسمى «القضايا السيادية». وكذلك الأمر بالنسبة إلى «الضوضاء» تحت الماء، فهذا الأمر يؤثّر سلباً على النُّظم الإيكولوجية البحرية والذي اعتُبر أيضاً سرياً كون معظمه يأتي من مصادر عسكرية.