امّا وقد حُسِم ما كان حتى قبيل ساعات من تجسّده حدثا سويا موضع تكهن وتأويل وسمّى رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع خصمه التاريخي الالد العماد ميشال عون مرشحه للرئاسة الاولى الشاغرة منذ اكثر من 20 شهرا، فان انظار المراقبين صوبت مباشرة نحو القوى السياسية الاخرى على ضفتي 8 و14 اذار ومن والاهما من المستقلين لاستجلاء حقيقة موقفها من هذا الفارض نفسه امرا واقعا لا يمكن الفرار من سطوته.
مشهد معراب ليل اول من امس كان حدثا ارتجاجيا بكل ما للكلمة من معنى، اذ اربك كثيرين واحرج آخرين وفرض على الواقع السياسي برمته معطى جديدا على الجميع التعاطي معه سلبا او ايجابا، وإن اخذوا لأنفسهم فترة صمت وتأمل، بدليل ان كل الكتل النيابية رفضت امس البوح برد فعل على ما حصل.
ستطول ولا ريب قائمة الحديث عمن يقبع في كفة الخاسرين والمستائين الى حد الغضب من تداعيات التطور، ومن يمكث في كفة الرابحين على المستوى المسيحي خصوصا وعلى الصعيد الوطني عموما. لكن المشهد السياسي الطويل امام عدسات النقل التلفزيوني المباشر غيّر ولا ريب من طبيعة المعادلات السياسية المألوفة منذ زمن، وبالتحديد منذ عام 2005، اي منذ انشطار الساحة عموديا بين فريقين متصادمين حيال كل الخيارات الداخلية والاقليمية ومتصارعين على كل المفاهيم والشعارات، الى درجة ان هناك من يعتبر هذا التطور انقلابا مسيحيا كونه جمع اكبر قوتين مسيحيتين في خيار سياسي اساسي في وجه كل المتحدثين عن ان التشرذم المسيحي الحاصل هو سبب من اسباب عدم استقامة الوضع السياسي وعامل من عوامل استحواذ آخرين على حصصهم في كعكة السلطة ودست الحكم.
من البديهي ان في اوساط دوائر القرار في 8 اذار من له بطبيعة الحال صلة بـ “حزب الله”، يتحدث صراحة عن رابحين اساسيين هما طرفا التفاهم الوليد في قلب كسروان، وعن خاسر اساسي هو “تيار المستقبل” والمسيحيين المستقلين وعن مربكين اثنين هما رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس “اللقاء الديموقراطي” النائب وليد جنبلاط لشعورهما بأن رياح الامور تهب عكس كل ما تشتهيه سفنهما وحساباتهما.اما الفريق الذي يرى نفسه خارج حدود الخسارة والارباك والربح فهو “حزب الله”.
ربما للمرة الاولى تحضر كاميرا تلفزيون الحزب (“المنار”) الى معراب اول من امس وتبث من هناك رسائل مباشرة، ولكن اللافت ان الحزب قارب الحدث الذي استأثر بالمشاهدة بهدوء وبعدم احتفالية. فهو اعلاميا تعامل مع الحدث ضمن المعقول، وسياسيا لم يتعاط معه، وهذا لا يعني ان دوائر القرار والرصد في الحزب لا تملك تصورا استشرافيا عميقا لما حصل في معراب ولمآلاته المحتملة والمتدحرجة.
وفي سياق هذا التصور فان الحزب لا يخفي انه الاكثر ارتياحا حيال الحدث. فما حصل هو ان مرشحه الحصري للرئاسة الاولى، والذي لم يساوم عليه رغم ما اتاه من وسائل ترغيب وترهيب، لقي بالامس دعما مسيحيا اضافيا من خلال تأييد جعجع لترشيحه علانية وللمرة الاولى للرئاسة بعدما تخلى طوعا عن ترشحه غير المنقطع لهذا المنصب. وهذا بشكل او بآخر يكرس مقولة سيد الحزب السيد حسن نصرالله المتكررة ان عون هو المعبر الاساس الذي لا غنى عنه للرئاسة وان على جميع الراغبين في رؤية الانوار تطرد عتمة قصر بعبدا مجددا ان يقصدوا الرابية ويقفوا على رأي سيدها الحاسم، وبالتالي فان ما حصل في معراب يقرب مرشحه للرئاسة خطوات اكبر في اتجاه المنصب الشاغر منذ نحو 20 شهراً.
لا يخفى على الدوائر المعنية في الحزب ما يردده البعض منذ فترة في اوساط سياسية واعلامية من ان جعجع ربما انزاح الى هذا الخيار المكلف لاعتبارين ضمنيين اثنين:
الاول، ان الرجل ربما ضاق ذرعا بتبدلات حسابات زعامة الفريق الذي انضوى اليه منذ خروجه من السجن على نحو جعله رقما غير صعب يمكن تجاوزه وفق المصالح اللحظوية لهذه الزعامة.
الثاني، ربما ان سيد معراب شاء ضمنا سلوك سبيل يقرّبه من حارة حريك ويفتح الابواب الموصدة بينه وبينها، فتوسل التفاهم الرئاسي مع حليف حارة حريك المزمن والثابت معبرا مستقبليا الى الضاحية الجنوبية.
لم يعد خافيا ان الدوائر عينها قرأت بتمعن مضامين خطاب جعجع (النقاط العشر) لحظة زكّى عون مرشحا للرئاسة الاولى، فوجدته يوشك ان يخلو من هاتيك المفردات والمصطلحات الفجة والتهجمية التي اعتاد ان يطلقها في السابق ضد الحزب نهجا وسلوكا ايام كانت المهمة المولجة اليه ان يكون رأس حربة في مواجهة الحزب وخطب سيده النارية. لذا فهو في العمق خطاب تمهيدي يتوسله كل من يريد القطع مع مرحلة ولت والانتساب الى فضاء سياسي آخر.
ربما يكون صحيحا ان جعجع لم يعلن بعد خطوته هذه خروجه نهائيا من الفريق السياسي الذي انتمى اليه طويلا وشكل في فترة من الفترات احد قيادييه الابرز ورصيده الاقوى في الشارع المسيحي اي فريق 14 اذار، الا انه صار واضحا انه قطع الخطوة الاولى في مشوار التمرد عليه على نحو يصعب معه ان تعود الامور الى مجاريها المألوفة، وان ثمة تحولا سياسيا جليا حدث بالامس سيكون حتما على الجميع التفاعل معه والاجابة عن التساؤلات التي طرحها بمن فيهم حليف الحزب اي الرئيس بري الذي حرص طوال الاشهر الماضية على تمييز نفسه عن خيارات الحزب الرئاسية، الا الحزب الذي يحق له ان لا يصاب بعوارض الاحراج او الخسارة كحال كل القوى الاخرى.