ليس تفصيلاً ما حصل في الرابية قبل يومين. هو حدث يمتد بمفاعيله على الماضي والحاضر والمستقبل معاً. ولأنه كذلك، كثرت حوله التأويلات والتعليقات من أقصى التشنج إلى ذروة الارتياح.
سمة اللقاء الأولى أنه تم بين متحاربين. ما يعطيه طابعه الإشكالي الأول. بعض المعلّقين على جدرانهم المرفوعة باسم «التصادم الاجتماعي» عبّروا عن استياء وتوتر وبعض غضب.
بعضهم استذكر حروباً وضحاياً وخسائر وأثماناً. استذكار يُفهم بخلفية الشعور الإنساني. خصوصاً لدى كل من فقد عزيزاً، واكتشف بعد فقدانه بعض عبثية الحروب ومأساوية التضحيات. غير أن مبدأ المصالحة هو أن تتم بين من تحاربوا يوماً. لا بين من تحابوا دوماً. ومفهوم السلام أن يقيمه الخارجون من الحرب، لا سواهم. حتى أن المفردة، سلام، هي نفسها الكلمة التي صارت تطلق على مصافحة رجلين. علماً أن تلك المصافحة لم تنشأ تاريخياً، إلا للتأكد من أياً من المتصافحين لا يخفي خنجراً تحت معصمه… هذا هو تاريخ السلام، مفردة وسلوكاً. وهذه هي هوية المصالحة.
ثم إن على مناصري الطرفين أن يستعيدوا تاريخهم. كل منهم تصالح مع كل أعدائه. لم يبق متحارباً معه إلا صالحه وصادقه أو حتى حالفه. ميشال عون، شخصياً، تصالح مع من حاول اغتياله في الجبل. وتصالح مع من كمن له بالصواريخ في قبرص. وتصالح مع من أطلق عليه النار في بعبدا. وتصالح مع كل أعدائه داخل لبنان وخارجه. كبيراً ذهب إليهم. مرفوع الرأس، رافعاً رؤوس من معه… وأنصار سمير جعجع أقدموا على الأمر نفسه من جهتهم. ففي ذاكرتهم حروب أهلية وبيتية. ومجازر في كل الجبل. ونزوح وكوارث. طووها وذهبوا إلى تحالفات وانتخابات وسياسات. في هذا السياق، كان محتوماً لمصالحة الرجلين أن تتم. ولو كانت حولها ملاحظة من هنا، أو تمني زيادة عبارة من هناك، أو لو أن لفتة وردت في الإعلان من هنالك. ليس التطلب الإنجيلي الكياني وحده ما يقتضي ذلك. بل أيضاً واقع الناس والجماعة والوطن. وهو ما يفتح دلالات اللقاء على مفاعيله في كل الزمن.
مفاعيله في الماضي أولاً، أنه يصحح ما يمكن تصحيحه من نكبة عمرها ربع قرن. من لحظة تقاطعت فيها ظروف تاريخية استثنائية، وانهارت فيها كل موازين القوى، في الداخل والمنطقة والعالم. فصار لبنان نهباً لوصاية واحتلال. تصحيح لاستحقاق، لو ووجه باللقاء والتوافق والتفاهم والاتفاق، لما كان كما كان. أو لما كان أصلاً. تصحيح لسقطة الانقسام الكبير، الذي ولد هوة دخل منها الاحتلال، وانبثقت منها الوصاية، وتسللت عبرها كوارث الدم والدمع والهجرة والهزيمة.
ومفاعيله في الحاضر ثانياً، أن الكل في أزمة. لا بل في محنة. أو حتى على مشارف خطر كبير. خطر اسمه انهيار نظام الشرق الأوسط. وقيام عصر الإرهاب التكفيري. ووصول نار المحيط إلى حدود البيت – الوطن. فاللحظة الراهنة، أكبر من الجميع. لأنها بحجم شعب ووجود. والخطر الداهم والمحدق أكبر من كل ذاكرة. لأنه بقدر حياة كل البشر على هذه الأرض المفترضة كياناً.
تبقى مفاعيل اللقاء في المستقبل. وجوهرها أن تحاول رسم طريق وسط الألغام، وأن تسعى إلى إنقاذ من بين المهالك. طريق أوله تصحيح نظام معتل معتور عمره ربع قرن. قام على اختلال في الميثاق، وعلى انعدام في التوازن، وعلى سطو على الحقوق، وعلى اعتياد إلغاء الشراكة في الفعل والشكل. وإنقاذ أوله تكريس أن هذا البلد لا يحكم إلا بالتساوي الرقمي البحت. تساو بدايته أن يكون المسيحي شريكاً. وأن تكون شراكته من الرئاسة وحتى مجالات السياسة كافة. وأن الرئيس المسيحي فيه هو القوي. لا بل هو الأقوى. فهو من يقدر على التزام الميثاق، وهو من يقدر على إلزام كل شعبه به. فالأقوى هو من يطمئن. بينما الأضعف هو من يفرط. الأقوى هو ضمانة مصلحة الشعب. بينما الأضعف هو مطية مصالحه الخاصة. الأقوى هو من يجمع ويبني ويحمي ويصون. أما الأضعف فهو من يبدد ويدمر ويخون. مفاعيل لقاء الرابية للغد المقبل، ولكل غد آت، أن يعود النظام إلى توازنه، وأن يعود المسيحيون إلى شراكتهم، وأن تعود الرئاسة إلى مستحقها. الآن الآن. وعند كل استحقاق في كل آن.
مفاعيل لقاء الرابية للأمس واليوم والغد، أن ها هم المسيحيون قد توافقوا، على الرئيس القوي. وعلى قانون انتخابات ينتج مناصفة فعلية. وعلى كل مندرجات الميثاق. وقد توافقوا على ذلك كله، كمبدأ، وكآلية اختيار واستحقاق. وها هو توافقهم يحظى بتأييد أكثرية تفوق التسعين في المئة. ويحوز على بركة بطريركية جاهزة للبلورة والتنفيذ، ومسحة فاتيكانية تلقي عليهم مسؤولية التاريخ حيال وجودهم في لبنان وكل المنطقة.
تبقى صور الذين رحلوا. ويجب أن تبقى، كما في كل مشروع تنقية ذاكرة وتطهروجدان، أيقونات مضيئة، لنعتبر، لا لنندثر.