يمكن القول إن الاصطفافات السياسية القائمة حالياً وهي 8 و14 آذار تكاد تنتهي بسبب الخلاف ليس على انتخاب رئيس للجمهورية فحسب، وكما انتهى “الحلف الثلاثي” (شمعون، الجميل، اده) بسبب الخلاف على انتخاب رئيس لمجلس النواب عندما كان التنافس قائماً بين صبري حمادة وكامل الأسعد، بل بسبب الخلاف على الخط السياسي لكل منهما. فكل تحالف يقوم من أجل الدفاع عن قضية ثانوية ينتهي مع انتهاء هذه القضية. فـ”الحلف الثلاثي”، مثلاً، قام من أجل وقف المد الناصري الذي كان يخشى أن يذيب كيان لبنان في وحدة عربية بدأت بوحدة بين مصر وسوريا، وانتهى هذا الحلف عند زوال هذا الخطر. وتكتل 14 آذار قام لاخراج القوات السورية أولاً من لبنان ومن ثم إقامة الدولة اللبنانية القوية القادرة على بسط سلطتها وسيادتها على كل أراضيها، وقد نجح من خلال انتفاضة شعبية في اخراج القوات السورية لكنه لم ينجح في إقامة الدولة اللبنانية القوية بسبب قيام دولة أو شبه دولة الى جانبها هي دولة “حزب الله”…
لذلك فإن المطلوب الآن هو الاتفاق على كيفية العبور الى الدولة اللبنانية القوية بعدما انتهت الوصاية السورية، وهذا يتطلب موقفاً لبنانياً واحداً لم يتحقق حتى الآن بسبب الخلاف على إعادة تكوين السلطة. وهذا يبدأ بالاتفاق على قانون جديد عادل ومتوازن تجرى الانتخابات النيابية على أساسه وينبثق منها مجلس نيابي يمثل إرادة الشعب تمثيلاً صحيحاً ولا يشك أحد في صحة تمثيله وإلا فقدت الانتخابات النيابية أهميتها عندما لا تحسم نتائجها الخلاف على أمور كثيرة، كأن يُقال عن الاكثرية الفائزة إنها أكثرية نيابية وليست أكثرية شعبية، أو كأن يتساوى الفائز في الانتخابات بالخاسر ثم تجمعهما حكومة واحدة لا تنتج لأنها تجمع أضداداً ومتخاصمين. لذلك فإن اصطفافات جديدة لا بد من أن تظهر بعد انتخاب رئيس للجمهورية، لها قضية تؤمن بها وتدافع عنها، خصوصاً بعد قيام حكم جديد في سوريا مستعد لأن يبني أفضل العلاقات مع لبنان وتزول بوجوده التجاذبات بين البلدين.
وفي المعلومات أن اتصالات تجرى ولقاءات تعقد بين “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر” لبلورة رؤية مشتركة حول لبنان المستقبل تبنى على أساس اللامركزية الادارية الواسعة تنفيذاً لما نص عليه اتفاق الطائف، حتى اذا ما تم التوصل الى اتفاق على هذه الرؤية بين الحزبين يجري البحث فيها مع أحزاب أخرى مسيحية واسلامية تمهيداً للتوصل الى اتفاق على صيغة جديدة للبنان تعزز العيش المشترك وتحصّن الوحدة الوطنية وتحمي السلم الأهلي لتبدأ مسيرة العبور الى الدولة القوية لا دولة سواها ولا سلاح غير سلاحها. ولا بد لهذه الاتصالات من أن تفرز اصطفافاً واحداً أو اصطفافات لكل منها قضية أو خط سياسي كي لا يبقى لقاء معراب بين عون وجعجع مقتصراً على طي الخلافات الشخصية، بل أن تجمعهما رؤية وطنية مشتركة للبنان الغد، لبنان الواحد الموحد لجميع ابنائه، ولا يظل مهدداً بأن يكون لكل حزب لبنانه أو لكل طائفة لبنانها، فلا يبقى لبنان عندئذ أبدياً سرمدياً كما أراده قادته المخلصون بل لبنان الى زوال.
والسؤال الذي ينبغي في الوقت الحاضر طرحه على “حزب الله” خصوصاً هو: كيف يرى أن يتم العبور الى الدولة؟ فقوى 14 آذار قالت كيف يتم ذلك في أكثر من مناسبة، وحالياً ينبغي أن يبدأ بانتخاب رئيس للجمهورية يستطيع بصفاته الحميدة ومؤهلاته أن يجمع المتفرقين لا أن يفرّق المجتمعين، وأن يشكل حكومة من مستقلين لا مرشحين فيها للاشراف على انتخابات نيابية تجرى على أساس قانون عادل ومتوازن، وأن يتم بعد انبثاق مجلس نيابي منها تشكيل حكومة منسجمة ومتجانسة بأعضائها لتكون منتجة وقادرة على بسط سلطتها وسيادتها على كل الأراضي اللبنانية، وأن تطبق القانون على الجميع من دون تمييز ولا استثناء، ويكون القضاء هو الذي يحكم بعدل في ما بينهم، ولا يكون قانون غير قانون الدولة ولا سلطة غير سلطتها ولا سلاح غير سلاحها، واذا كان لا بد من وجود سلاح خارج الدولة يمكن الافادة منه عند الحاجة فينبغي الاتفاق على استراتيجية دفاعية تصد أي عدوان يقع على لبنان.
إن كل قوى 14 آذار متفقة على أن يتم العبور الى الدولة، على أن يبدأ من مجلس النواب بانتخاب رئيس وليس من أي مكان آخر، وأن يلتزم الرئيس والحكومة ما تم الاتفاق عليه للعبور الى الدولة، وقد تأكد أن لا عبور اليها إلا بموافقة “حزب الله” الذي يجد نفسه مع هذا العبور عندما يتم الاتفاق على ذلك بين “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر”. فهل يكون الاتفاق بينهما ممهداً للاتفاق مع “حزب الله” عندما يقرر هذا الحزب الانتقال من النضال العسكري الى النضال السياسي فتقوم عندئذ الدولة المنشودة ويقوم معها لبنان الواحد الموحد؟