إلى معالي الأستاذ ملحم رياشي
زاويتي في نداء الوطن تتناول هذه الأيام موضوع الدولة كمصطلح أو كمفهوم نظري، وكقضية تتوزع مواقف القوى السياسية منها، بصرف النظر عن النوايا، بين ثلاثة، واحد يصب في مصلحة قيامها وثان يؤدي إلى تدميرها، وثالث يرغب بدعمها وتذهب جهوده سدى لأنه ينطلق من أخطاء شائعة مصطلحية، أي نظرية تتعلق بتفسير المصطلح، أو تاريخية أو سياسية.
الخطأ المصطلحي كالخلط بين الدولة والسلطة وهو خطأ شائع حتى في لغة الخاصة من أهل العلم، وهو يتكرر اليوم في برنامج تلفزيوني يحمل هذا الإسم، إذ نقول مثلاً، كهرباء الدولة وهاتف الدولة ومدرسة الدولة والمقصود القطاع العام أو المؤسسات الحكومية. هذا خطأ يستخدمه أهل السلطة للتملص من مسؤولياتهم فيرمونها على الدولة، وهو ما نراه ونسمعه مئات المرات في وسائل الإعلام ووسائل التواصل ولا سيما عند الحديث عن أزمة السلع وأزمة اللقاحات وأزمة التهريب، فيلقي المواطنون وأهل الحكم والثوار المسؤولية، من قبيل الخطأ الشائع، على عاتق الدولة لا على عاتق السلطات الحاكمة عموماً أو على سلطة معينة منها بالتحديد أو على وزير من الوزراء.
كنت أستمع إلى مقابلة متلفزة مع الأستاذ ملحم الرياشي ولفتني في الحل الذي اقترحه للأزمة اللبنانية أخذه العبرة من تاريخ المتصرفية، وهذا خطأ شائع في قراءة تاريخ لبنان ارتكبناه جميعاً قوى وأحزاباً وباحثين في اليسار وفي اليمين من ميشال شيحا حتى مهدي عامل ومناضلي الأحزاب.
لقد تأكد لي في دراسة مستفيضة نشرتها بين دفتي كتابي، أحزاب الله، أن القراءة المغلوطة لتاريخ وطننا تتحمل قسطاً من المسؤولية في تكرار حروبنا الأهلية. لبنان القديم جداً، بلغة ميشال شيحا، تحوّل، بلغة الأحزاب القومية واليسارية والإسلاموية إلى كيان مصطنع. لبنان المتصرفية والولايات العثمانية يختلف عن لبنان الأموي والمردة وعن لبنان الملك سليمان وخشب الأرز وعن لبنان الوارد إسمه في الكتب الدينية.
هذا هو لبنانهم، لبنان الحروب الأهلية أو حروب الآخرين على أرضنا. هذا لبنان الوطن القومي المسيحي والوحدة العربية والأمة الإسلامية وولاية الفقيه والأممية الاشتراكية. أما لبنان الثورة فهو لبنان الدولة، لبنان الكيان الذي تأسس عام 1920، بإعلان لبنان الكبير. أقتبس من ماركس قوله، كل ما قبل الاشتراكية هو مما قبل التاريخ، لأترجمه بلغتي الوطنية، كل ما قبل المئوية هو مما قبل تاريخ لبنان.
لبنان الكبير، مصطلح مغلوط هو الآخر، لأنه يضمر وجود لبنان آخر اسمه لبنان الصغير. غلطة المصطلح ثغرة تسلل منها المصطادون في الماء العكر الموجودون في اللبنانَيْن، الكبير والصغير. تحولت قضية “إلحاق” الأقضية بلبنان الصغير منّة في لغة بعضهم وذريعة للرفض في لغة الآخرين، وصارت الإرساليات وتدخلات الدول الكبرى ذريعة يستخدمها الجميع لاستدراج الخارج ضد الآخر، الآخر المختلف في الدين أو في الإيديولوجيا أو في السياسة أو في الأوهام، الآخر الذي ليس مواطناً “أصلياً” بل هو دخيل، كالعاربة والمستعربة في لغة الجاهلية، دخيل على وطن لم ترسم حدوده بشكل نهائي، لا في التاريخ ولا في الجغرافيا ولا في الوعي الشعبي.
“نفيان لا يصنعان وطناً”. وعبارة في الدستور لا تصنع وطناً نهائياً لجميع أبنائه. يحتاج الأمر إلى ترسيم حدود جغرافية وحدود في الأذهان والوعي وحدود في التاريخ. إذا كانت الدولة هي الحل، فتاريخ لبنان هو تاريخ قيام الدولة فيه. عندئذ ننجز كتابة تاريخ مدرسي موحد ونخضع أنفسنا لمحاكمة عادلة. الموقف من الدولة كمعيار موحد سيبين بدقة من دمّر ومن عمّر.