“أُغالِبُ فيكَ الشَوقَ وَالشَوقُ أَغلَبُ
وَأَعجَبُ مِن ذا الهَجرِ وَالوَصلُ أَعجَبُ”
أبو الطيب المتنبي
صار الواحد منا، في هذا الزمن القاتم، يحلم بأمسه لا بغده، ويشتاق إلى تفاصيل صغيرة وتافهة لن تعود.
أشتاق كثيراً إلى ذاك الموعد اللطيف مع مديرة البنك الأنيقة. وأنا قاعد امام مكتبها أرتشف فنجان قهوة. نظرت إلى عينيها وفاتحتها بنيتي إقفال حسابي وإيداعه مصرفاً آخر، قالت بصوت مخفوض وكأنها توشوشني: وليه بدك تتركنا؟ قلت متلعثماً: “لقد وُعِدت بفائدة خمسة ونص على الدولار من بنك منافس لكم”، بدا لي أنها تغويني بعرض لا يقاوم “أنا بعطيك ستة إلاّ ربع” وافقتُ واعتبرت نفسي من المميزين لديها. مرّ شهران على الفائدة الإستثنائية لشخص إستثنائي وإذ بي اكتشف بعدهما أن صوت المديرة الرقيق بات خشناً وأخلاقها مثل كوز الصبّير.
كما أشتاق أن أغمر قرقوراً لأشتم فيه ذكرياتي مع الكستلاتة المشويّة أيام الآحاد والأعياد والمناسبات السعيدة.
أشتاق إلى زحمة السير في أنفاق المطار ورائحة المازوت من “أشكمان” صهريج تملأ رئتيّ، وإلى البوليس على تقاطع النهر برج حمود يشتم أخلاق مواطنيه وذوقهم باللغات الرسمية المعتمدة في الأمم اللبنانية المتحدة.
أشتاق أن أحضر دفناً طبيعياً: ندّاب باب أوّل ونوبة المتين وباقة كهنة وتابوت مفتوح، وبكاء مرّ على متوفٍ نتيجة إصابته بالسرطان التعازي ثلاثة أيام full.
كم تبدو حياتنا اليوم مملّة وبطيئة في زمن “الكورونا”.
إشتقنا لسهرات الأصحاب والأنخاب والعبط بمناسبة وبغير مناسبة.
إشتقنا إلى رؤية موكب عروس في ضبيّه يوازي موكب وئام وهّاب فخامةً وَعظمة.
إشتقنا كلبنانيين إلى تلال الزبالة، وإلى تظاهرة تقودها نعمت بدر الدين.
وعلى المستوى الشخصي إشتقت إلى جولة إنتخابات نيابية وإلى إشباع ناظريّ بمرأى صور سركيس سركيس متدلية على بناية 6 طوابق على أوتوستراد المتن، وصور منصور غانم البون مزروعة فوق التلال والروابي وإلى نبض الساحل وضمانة الجبل وأمل الشباب.
إشتقتُ إلى السينما وإلى ميلاني غريفيث بشكل خاص.
إشتقتُ إلى مدرسة ابنتي، وإلى الوجوه التي أصادفها صباحاً وبعد الظهر.
إشتقتُ إلى أرصفة مرصوفة بدعساتي.
إشتقتُ لرالي الفانات على أوتوستراد الدورة.
إشتقتُ لحضور مباراة كرة سلة بين أبناء نبتون وأبناء فيطرون.
إشتقتُ لثيابي المعلّقة في الخزانة.
إشتقتُ للتبجح بتلة الصنوبر والفستق حلبي واللوز والجوز فوق كاسة المغلي.
أشتقتُ لمهرجانات بيت الدين الدولية ومهرجانات بيت الككو.
وبعيداً من “الكورونا”، أذوب كل يوم شوقاً وأحن إلى العماد ميشال عون يؤنّب الصحافيين في الرابية، وإلى جانبه اللواء عصام أبو جمرة، ومسؤول العلاقات السياسية في “التيار الوطني الحر” المهندس الركن جبران باسيل.