المحليّات في الطبقة الثانية. تاريخياً هكذا. الماغازين في الثالثة، «عربي ودولي» في الرابعة. وهكذا، صعوداً إلى الطبقة التاسعة. بعد التحديث، بعد الدمج، أو بعد الأزمة، انضمت «الميديا» إلى طبقة المحليات، «فلسطين»، و«قضايا وآراء» أيضاً.
«السفير» في مكانها. طبقة فوق طبقة، آلاف الأعداد صدرت من هذا الجسد العابس والمتعب. صعوداً، طبقة فوق طبقة، تسمع صوتاً، ينسحب من حناجر أهلهِ. الزملاء يبتسمون. يضحكون علينا بالادعاء أن هذا يوم عمل عادي. في المبنى أشياء لا تشترى. ولا تباع. ولا تقال. صوت خافت. جبال من الذكريات. قصاصات من جريدة. صور بالنيغاتيف، ملامح مدينة. كليشيهات على الجدران، كما في كل الصحف. كما كان الجو غالباً في الثمانينيات. المصعد على الطراز القديم، والضوء أصفر كئيب، من ذلك النوع الذي لم يعد دارجاً. لكنه حميمي ولطيف. وهناك ابتسامات الكتّاب والمصوّرين والعمّال، سكّان المبنى الأصليين. والشرفات التي لن تجد من يطل عليها، تطل على شارع يتغير. شارع وحيد. ومدينة تنتهي، في آخر الشارع. من الأفضل تعداد الذكريات. ذلك رغم أنّ الحنين مُملّ. ولا ينفع. والجميع يعرف أنه لا ينفع. الحنين بما هو حنين. قصص المقيمين.
وآراء العابرين. جريدة تاريخية، ودعنا من النكتة السمجة عن «قهوة الصباح»، وعن «فلفشة» الأوراق وعن رائحتها، وعما اقتطف مِن أقوال جمال عبد الناصر. ولسنا نتحدث عن عبد الناصر. ولا عن أم كلثوم. ولا عن زملاء، أو نقابات، ومانشيتات. نحن في لبنان، وهذا حديث متأخر. في غير زمانهِ الآن. الحديث عن مقيمين، بعضهم يقيم منذ ثلاثين عاماً. معظمهم، على الأرجح. يومياتهم، أرشيف حيواتهم الطويل. يغادرون بخفّي حُنين. يحملون ما تسنّى لهم من قصاصات أحبّوها أكثر من غيرها في زمانها. يحملون صوراً وابتسامات، ولكن غالباً الذكريات ستبقى في مكانها، كما يحدث عندما يُخرج سكان المبنى منه بالقوة. نتحدث عن المبنى وعن سكانه. العالم يتغيّر. وعلى الجميع أن يعترف. ولا مانع من بعض الحَنين. ليس تعويضاً عادلاً، أو مسلياً، لكنه التعويض الوحيد. سيتجاوزنا الوقت، كما تجاوز «السفير».
حارس الأمن الودود ما زال في مكانه. أين سيذهب. «السفير» في مكانها. يدور حولها، يحيّي المارة. يوم عمل عادي، لكنه الأخير. واجهة المبنى تجددت، لكن المبنى لا يزال عابساً. الضوء شحيح فوق عامل الاستقبال. يقول إنه هناك منذ 35 عاماً. المبنى باقٍ والمكاتب باقية، لكن أين سيذهب هو الآخر. 35 عاماً على الباب. يعني منذ الثمانينيات، يعني قبل الاجتياح الإسرائيلي الأول. قُصفت الصحيفة في 1980. بعد الاجتياح، اشتد الحصار. حصار بيروت. توقفت «السفير». وعادت بعد قليل. إنها هناك، في مكانها، قبل الاجتياح الثاني. وقبل خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت. وقبل حرب الجبل. وحرب الإقليم. وقرب حربَي الإلغاء والتحرير. قبل «حزب الله»، وقبل «حركة أمل» والقوات اللبنانية وقبل عون. إلخ إلخ إلخ. قبل التسعينيات، وقبل اتفاق الطائف. قبل مجيء الحريري الأب، وطبعاً قبل الحريري الابن. قبل الانتفاضتين، الأولى والثانية. قبل «أوسلو»، الجريدة بدأت قبل مهزلة «كامب دايفيد» حتى. وعامل الأمن والاستقبال كان هناك قبل «عناقيد الغضب» الإسرائيلية. في 1993، كانت ثالث مرة تتوقف فيها الصحيفة عن الصدور.
منعتها «الدولة الجديدة» لأسبوع. قرار قضائي عجيب. وكانت في مكانها وبقيت. وتصدر كل يوم. قبل عدوان نيسان ومجزرة قانا. ولكننا نسينا. قبل التحرير في 2000. قبل عدوان تموز 2006، وبينهما اغتيال الحريري، وظهور «14 آذار» وقبل أن تختفي. قبل «الربيع العربي»، قبل الأزمة السورية، التاريخ أكبر من «السفير»، والصحيفة بحجم مدينتها. تراقب من بيروت، وتتدخل وتتحدث وتساجل. حتى غادرها آخر موظف أمس، وأطفأ الضوء خلفه، على العام، وعلى الجريدة. وعلى قطعةٍ من تاريخ المدينة. والسلام.
هذا ليس كل شيء. بقي القليل. سيصدر عدد استثنائي يوم الأربعاء المقبل. عدد ضخم تجاوز الستين صفحة حتى الآن. أرشيف، تحقيقات، كتّاب السفير. عدد اليوم طبيعي. عادي. «أزمة الصحافة»، الهدنة في سوريا، مراسلو المناطق، وهكذا. الجريدة في وعائها المثقوب: الصحافة. المهنة التي تلهث وتستجدي. وجمهورها «العربي» يقرأ على «الفايسبوك»، ويحزن، ويضغط «لايك». ويمزج بين الخبر وبين التحليل و«اللايك»، وبين الخطأ والصواب، بين المعايير والحقيقة، وبين حزنه على «السفير» وشعورهِ بالامتلاء بعد كتابة «ستاتوس». «الجمهور عايز كده». في أي حال، أُخبر الزملاء، في اجتماعٍ أخير، أن «حقوقهم محفوظة». الناشر باع قطعة أرض بمليونَي دولار لهذا الغرض. 3 أشهر «صرف تعسفي» و3 أشهر عن كل سنة عمل. والمكاتب ستبقى مفتوحة، بإمكانهم المجيء متى يشاؤون. لشرب «قهوة الصباح» ربما. فالجريدة لن تصدر. ورواتب 140 موظفاً لن تدفع. خَلص. لكن اجتماع أمس التحريري كان مثمراً. وتقرر المانشيت باكراً. الزملاء جلسوا خلف مكاتبهم، في الطبقة الثانية، حيث نُقش على الجدار رسم تعبيري، لحجرٍ يطلقه طفل، أو لطفلٍ يطلق حجراً. في النهاية، ينكسر الزجاج المرسوم. والزملاء جلسوا بعيونٍ مكسورة. ولا يحبّون أن نكتب هذا عنهم. لكننا نكتبه عن أنفسنا وعنهم. الصحافة تغرق. تغرق، تغرق، تغرق. ولا عزاء إلا الذكريات. والحنين، المُمِلّ، الذي لا ينفع. القليل من الذكريات، على درج «السفير» البطيء. اسكندر حبش يرفع كأسه ويضحك. عباس بيضون يعبس من البرد وهو يتمشى مغادراً نحو الحمرا. اجتماع «التحرير» الصباحي. المصورون. المانشيت. المختبر، غرفة التحميض، كان زمان. آثار ثقيلة على الدرج البطيء. ضحى شمس في باريس. جهاد بزي في واشنطن. الآخرون في مدنهم البعيدة. وجوزيف سماحة في مكانٍ ما، الآن، مبتسماً كعادتهِ، قبل الوصول إلى مكتبه القديم.