سيبقى يوم “14 شباط” حاضراً في الذاكرة. فجيعة اللحظة القاتلة حفرت عميقاً في وجدان اللبنانيين. الشعور بفداحة الجريمة والخسارة والمهانة أطلق شرارة “الاستقلال الثاني” الذي حطّ في سجلّ تاريخ لبنان الحديث الدموي والذهبي.
يتذكّر اللبنانيون في أوج أزمة السلاح، وإذ يئسوا من تغييرٍ يطيح بالمنظومة المجرمة عبر “ثورة المواطنية”، أنّ تداعيات ذاك النهار ولَّدت “14 آذار”، وأن تصميمهم ووحدتهم جعلا ما كان مستحيلاً ممكناً فأخرجوا جيش الوصاية وأسقطوا النظام الأمني اللبناني – السوري المشترك. إنجازٌ لم يكن في الأحلام يؤكد أنّ إرادة الحرية توقظ الهمم مهما طال السُبات.
هي وديعةٌ فعلاً. وهي ملكُنا جميعاً. ليس سعد الحريري وحده مؤتمناً على إرث رفيق الحريري. باستشهاده كان لبنان برمته مستهدفاً سيادةً وحريةً ومشروع دولة. وهي عناوين توّجت مسيرة الحريري الأب متسبّبةً باغتياله وما زالت حبراً على ورق. بعض العثرات الحائل دون الانتقال من الاغتيال إلى زمن العدالة هو من مسؤولية الوريث نفسه، وجلُّه وليد عنفٍ مارسته “8 آذار” مانعة تداول السلطة سلمياً وواضعةً السلاح ووهجه في ميزان المعادلة الداخلية.
14 آذار لحظة استثنائية ولن تعود. استحضارها واجبٌ وطني كونها جوهر وجود لبنان وحافزاً للأمل. استذكار”14 شباط” من دونها يحيل تاريخ الجريمة إلى حادث مفجعٍ كبير، ومناسبةٍ شخصية أو مذهبية، فيما هو حدثٌ جلل يخصّ الوطن كلّه ذاكرةً وحاضراً ومستقبلاً.
مختلفةٌ ذكرى “14 شباط” بالتأكيد عن سابقاتها هذه السنة. سعد الحريري وتياره والحريرية السياسية في حالة انكفاء. لكنّ الخميرة التي زرعها استشهاد رفيق الحريري لا يجب أن تفسُد، لا سيّما أنها تضاف إلى شهادات كبارٍ دفعوا حياتهم ثمناً لعصيانهم على الاستبداد أو تمسّكهم بالكيان والحريات، أو ذودهم عن الدولة والإنماء في مواجهة سياسة الإفقار والإلحاق وهيمنة الدويلات.
مشروع رفيق الحريري القائم على التحديث والاعتدال لن ينتهي خصوصاً أنّ طائفته كانت أرضاً خصبةً له بعد تجربة مئة عام على “لبنان الكبير” بحلوها ومُرّها. وطائفته هذه لن تتخلّى بالتأكيد عن هذا الدور الطليعي لأنها بكلّ بساطة – وأسوةً بالطوائف كلّها – ما كانت ما هي عليه لو لم يكن لبنان نفسه، أو لعلّها كانت جزءاً من نزلاء “السجن العربي الكبير”.
سيبقى المشروع حيّاً ينبض لدى السياديين الغيارى على السلم الأهلي والتوّاقين لإعادة لبنان إلى محيطه العربي والمتمسّكين بدولة القانون والعبور إليها عبر الانتخابات وصناديق الاقتراع.