Site icon IMLebanon

17 تشرين: ما بقي من الانقلاب

 

 

مرّت ذكرى 17 تشرين باردة جداً. دماء شهداء مجزرة الطيونة كانت كافية لأخذ المشهد إلى مكان آخر. لكنّ السؤال يبقى موجّهاً إلى من تصرّفوا أو اعتقدوا بأن ما جرى في 17 تشرين كان يؤسّس لثورة شعبية على غرار ما حصل في بلاد أخرى في العقود السابقة، فيما واقع اليوم يشي بخلاصة مختلفة. هؤلاء، كانوا يقصدون، فعلياً، القيام بانقلاب لا ثورة. انقلاب ليست العسكرة أداته بالضرورة، بل أن تفرض نخب جديدة نفسها على الناس كدولة بديلة. أما فكرتهم عن الجمهور وموقفه، فلا تختلف البتة عن موقف من ينتفضون ضدّه أو ينقلبون عليه. تحاجج القوى الحاكمة بأن صناديق الاقتراع دليل على شرعيتها الشعبية، ويقول الانقلابيون إن المشاركة الشعبية في حراك 17 تشرين دليل على شرعيّتهم الشعبية. حتى بتنا أمام شرعيّتين شعبيّتين. والمشكلة أن أحداً من الجهتين لم يقل من هو الحكم الذي يفصل في مصداقية هذه أو تلك.

 

عملياً، ارتطم الفريق الذي يقف خلف فكرة تحويل 17 تشرين إلى ثورة، بجدار الشرعية الحقيقية التي لا توفرها سوى صناديق الاقتراع. وبالتالي، انقسم هؤلاء، اليوم، بين عازف عن الانتخابات لأنه يعرف أن لا حصاد شعبياً قابلٌ للترجمة أصواتاً ونواباً، وبين متحفّز ومتحمّس للمشاركة ترشيحاً واقتراعاً، مراهناً على أنه الأقوى وأن الناس سيثبّتون له شرعيته الشعبية التي نسبها إلى نفسه في 17 تشرين.

ولأن الأمر على هذا النحو، يبدو الانقسام السياسي واضحاً اليوم. حسناً فعل الذين أزالوا الأقنعة وقالوا إن معركتهم هي ضد الاحتلال الإيراني (اقرأ: اللبنانيّين المؤيّدين لحزب الله الحليف لإيران)، لأن هذا ما كانوا ينشدونه منذ اليوم الأول. لكنّ ضرورات لحظة 17 تشرين لم تكن تحتمل مثل هذا الوضوح. وفي المقابل، أحسن أيضاً من قالوا إن مشكلتهم هي مع الطبقة السياسية حصراً. لكنّ هؤلاء لا يقولون كلاماً مفهوماً حول السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والصحية والبيئية، بل يردّدون عناوين ومواقف يمكن العثور عليها في أي مكان من العالم، من دون أن تدلّ على شيء، كما هي الحال في الموقف من العدالة الاجتماعية لقوى يمينية ويسارية. لكن، هل رأيناهم في نقاش حقيقي مع أساس المنظومة المالية والاقتصادية وأدواتها من مصرفيين وتجار ومقاولين وسماسرة وشركات لبنانية وعربية ودولية؟ ما من أثر لهم هنا ولن يكون، لأن هذه الفئة المتحمّسة لخوض الانتخابات تنشد الوصول إلى السلطة، بالآلية نفسها التي يعمل بها خصومها. لذلك، لن يكون في مقدورهم التمايز يوم الاقتراع، إلا بمدى قدرتهم على إقناع الجمهور بكذبتهم حيال ثورة لا تعدو كونها مشروعاً انقلابياً. وبحسب تجاربنا اللبنانية الطويلة، فإن الوسيلة الأكثر فعّالية في الإقناع تنحصر اليوم في دولارات يتنافس هؤلاء جميعاً على نيل حصصهم منها، تماماً كما هي حال قوى السلطة التي تعاني أزمة تمويل الانتخابات. لكنّ للانقلابيين خصماً أكثر قوة، هو «القوات اللبنانية»، يمتلك المال الذي زادت حصته منه أخيراً، وبيده حيلة شدّ العصب الطائفي عبر «استراتيجية التخويف» من الآخر!

 

صمت عند الشيعة والدروز ونوم عند السُّنّة والصراع يحتدم على الصوت المسيحيّ

 

 

في حسابات اللحظة، صار بالإمكان رسم لوحة من مئة رمز أو شعار لمن يعرّفون عن أنفسهم بأنهم «مجموعات الثورة»، مثل المنظمات غير الحكومية التي ترفض وزارة المالية – بطلب منهم على ما أبلغنا الوزير السابق غازي وزني في كتاب رسمي – الكشف عن بياناتها المالية لجهة النفقات والضرائب. كما يجري التحايل على القوانين بعدم تسجيل هذه الجمعيات في وزارة الداخلية لمنع الحصول على بيانات مفصّلة حول مؤسّسيها والمنضوين في صفوفها. والحجة أن هذا النظام ساقط ولا يمكن الركون إليه للحصول على إذن بالعمل السياسي. من يرفضون تسجيل جمعياتهم في وزارة الداخلية، أو تسليم بياناتهم المالية إلى الجهات الضريبية، ليسوا، في حقيقة الأمر، سوى نسخة عن التنظيمات السرية التي تعترف بشرعية الحكم القائم، وتنفي عنه الشرعية الشعبية والقانونية، وتدعو علناً إلى إسقاطه والانقلاب عليه!

الاختبار الحقيقي لهؤلاء ليس في يوم الانتخابات فقط، بل في أيامنا هذه، حيث الاستقطاب الطائفي والمذهبي والسياسي على أشدّه. وإذا كانت الكتلة الشيعية المعترضة على تحالف ثنائي أمل – حزب الله، ضعيفة وقليلة الفعّالية، فإن الاستقرار في البيئة الدرزية لا يفسح في المجال أمام توقّعات بتغييرات كبرى. بينما نشهد انسحاباً سُنياً كاملاً من الحياة السياسية، سواء القيادات التقليدية التي اختفت أو تيار المستقبل الباحث عن أبوّة خارجية، أو الحركات الإسلامية على اختلافها، ما يجعل العين مركّزة على الساحة المسيحية أكثر من غيرها. وهنا عين العاصفة الانتخابية.

توجد قوى كثيرة تتصارع في هذه الساحة. بعضها له إرثه التاريخي الضامر مثل حزب الكتائب، وبعضها له وجوده الرمزي مثل حزبَي الأحرار والكتلة الوطنية، وبعضها له بعده المناطقي مثل تيار المردة وحركة الاستقلال وعائلات وشخصيات في جبل لبنان. لكنّ الحيوية تتركّز لدى التيار الوطني الحر و«القوات اللبنانية». هنا مركز الصراع، وموقع النزال. كلّ منهما يسعى إلى تعزيز التماسك وسط صفوفه الداخلية أولاً، وإلى اختراق الكتلة المتردّدة التي سئمت هذه الطريقة في إدارة الدولة وملّت من قواها. وهي الكتلة التي تسرح وتمرح فيها مجموعات 17 تشرين حتى تحوّلت هذه المجموعات، على هزالتها، إلى خصم مشترك لثنائي التيار والقوات.

هذه الحال تفتح أعين هذه المجموعات على حقيقة قاسية. وهي أنها الخاسر الأكبر من لهيب المواجهات الأخيرة في البلاد، إذ إنها تدرك أن خصمها الانتخابي الفعلي ليس حزب الله ووليد جنبلاط ونبيه بري، بل القواعد الشعبية التي تترنّح اليوم بين ضفّتَي الصراع المستعر بين التيار و«القوات». فـ «القوات» تُرهب هذه المجموعات وتُخيّرها بين الانضواء تحت عباءتها، أو سحقها إما في الشارع أو في الانتخابات. بينما ينظر التيار إليها بشماتة بعدما أصبحت أسيرة توصيات المموّل الخارجي الذي يدفعها عنوة للسير خلف «القوات». لذلك، يراهن التيار على أن وقوف هذه المجموعات خلف «القوات» سيُفقدها قسماً كبيراً من الجمهور الذي ابتعد عن التيار احتجاجاً على أدائه في الحكم خلال العقد الأخير.

عملياً، ما بقي من 17 تشرين لا يعدو خيبة أمل عند الناس الطيبين، وسؤالاً محرجاً للذين روّجوا لهذه الكذبة الثورية وصدّقوها. أما في الساحات، فلن يبقى سوى ظل لفقراء سيعودون مرة أخرى إلى المكان نفسه، إما على طريقة من صدّق جحا الكذّاب أكثر من مرة، أو على طريقة لم يعتدها لبنان سابقاً، وهي طريقة لن تُعجب الطبقة الحاكمة، ولا مجموعات الانقلابيين أيضاً!