غرقت فلسطين في «مستنقعات الربيع العربي». لم يعد أحدٌ يذكر فلسطين حتى في المناسبات العامة؟
الإشارة الى فلسطين أصبحت مزعجة ومؤلمة. أكثر ما يخيف الجميع العجز الذي يعيشون فيه. «النكبة» السورية، طغت وقائعها وضحاياها على «نكبة» فلسطين. إسرائيل قوية وازدادت قوتها من ضعف العرب والمسلمين. لولا هذا الاستقواء الإسرائيلي، لما كان بنيامين نتنياهو ليتجرأ على عقد جلسة علنية لحكومته في الجولان المحتل، ثم يلتقي «القيصر» فلاديمير بوتين ليضعه أمام الأمر الواقع خصوصاً أنه مطمئن لـ»ظهره» الأميركي. «القيصر» مضطر لملاطفة نتنياهو بشدة، لأنه في سوريا وهو في حاجة إليه في الجو وعلى الأرض، ما يرفع من منسوب حاجته وجود مليون إسرائيلي من أصل روسي في إسرائيل، عليه أخذهم في الاعتبار داخل روسيا.
اطلاق سراح ديما الواوي أصغر «أسيرة» فلسطينية، بعد أن أمضت أكثر من شهرين في الاعتقال، ذكّر العالم بوجود حراك وحركة اعتراض في القدس، وبعض البلدات الفلسطينية. مضت أشهر طويلة على «الهبّة» الفلسطينية، التي قدمت حالات نضالية نادرة في تاريخ الشعب الفلسطيني فكيف ببقية الشعوب؟ وما زالت «الهبّة» أسيرة وضع فلسطيني معقّد، يحول دون تحولها الى «انتفاضة» منظمة ومؤطرة تملك استراتيجية منتجة. الأسباب عديدة منها الذاتي ومنها الموضوعي.
لم تتشكل للهبّة، «حاضنة» سياسية تدعمها وتحميها، فبقيت بسبب التضحيات العظيمة «شرارة» تعيش على تضحية شباب يائس في أغلب الأوقات، في العجز السياسي وغياب أي افق مستقبلي وأزمات اقتصادية ومعيشية تتعمّق يومياً.
الحالة الجماهيرية غير موجودة، لأن المنظمات الفلسطينية من «فتح« الى «حماس» مروراً بالمنظمات الأخرى ضعيفة سياسياً وجماهيرياً. ما يضيف الى كل هذا الضعف ضعفاً يكاد يكون «سرطانياً» الانهيار الكامل للسلطة الفلسطينية.
تعاني «السلطة« وعيها الكامل بفشل اتفاق أوسلو، وفي الوقت نفسه عدم قدرتها على التراجع عن الاتفاق، لأنه أصلاً لا يمكن التراجع عنه، خصوصاً ان البديل غير موجود، وحتى غير ممكن مع هذا النسيان أو التناسي سواء من «الأهل» وصولاً الى العالم.. وإذا ما أضيف الى كل ذلك «فلفل» الحجم العالي للبيروقراطية الفلسطينية التي تمت بسرعة وترسخت بقوة، تصبح الصورة أوضح.
لكن يبقى عمق الأزمة وامتداده من الحاضر الى المستقبل، أن المشروع الوطني الفلسطيني يعاني مشكلة أساسية نتيجة تخليه عن أهدافه، وتراجعه المستمر أمام الإسرائيلي. من ذلك أن السلطة الفلسطينية تتعامل مع إسرائيل من «منطق المهزوم» ومن تغييب كامل لروح «المقاوم»، علماً أن تمدد آلية التعامل كمهزوم تسبب له نزيفاً مستمراً وقاتلاً. لم يعمل الرئيس الفلسطيني أبو مازن حتى على «استثمار الهبّة» ولو رافعة لموقفه السياسي. فخذلها وخذلته. ليست السلطة الفلسطينية وحدها الضعيفة، ولا الشعب الفلسطيني وحده يعيشان أزمة بلا أفق خلاص. إسرائيل رغم كل قوتها ضعيفة. الجيش هو «سيف» قوتها وهو الأقوى في المنطقة.
السلاح الجوي لهذا الجيش مهيمن على السماء. مشكلته في القوات البرية. هذه القوات ليست ضعيفة، فهي تملك كل أنواع الدبابات القوية. يكمن ضعف الجيش الإسرائيلي في أن الانتفاضتين بين الأولى والثانية حوّلتاه الى «شرطة» يلاحق المنتفضين ليكسر عظامهم. هذا التحول انعكس بقوة على نفسيته، حرب 2006 في لبنان أكدت ضعفه.
حرب غزة رفعت منسوب هذا الضعف الى الضِعف. هذا الجيش القادر على التدمير غير قادر على البقاء والاحتلال من جديد. كان يمكن للجيش الاسرائيلي أن يقوى ويستقوي بالتدريب الدائم. «الهبّة» الفلسطينية الجديدة أعادته الى دوره «شرطياً» يخاف حتى من فتاة لم تبلغ الثانية عشرة من عمرها بعد.
مشكلة إسرائيل المؤثرة بقوة أنها تحولت من «دولة علمانية صهيونية» تستخدم الايديولوجية قوة لها، ولنشر حضورها بين اليهود الآتين الى «أرض الميعاد»، الى «دولة المستوطنين» الشديدة التطرّف ذات النزعة الدينية اليهودية. الفرق مهم، لأن إسرائيل كانت في المرحلة الأولى مستعدة للتفاوض على طريق اسحاق رابين، أما في هذه المرحلة فإن كل ما تريده «دولة المستوطنين» التخلص من السكان والاحتفاظ بالأرض. إبعاد «المقدسيين» الى «كفر عقاب» وتكديسهم فيها مثالٌ على التحوّل.
عام 2020 يصل عدد المستوطنين في الضفة الغربية الى المليون أي قرابة ثلث الإسرائيليين.
هؤلاء وبكل وزنهم النافذ لا يريدون المفاوضات، ولا التفاوض مع الفلسطينيين سواء كانوا سلطة أو منظمات. مخطط «دولة المستوطنين» يريد ويعمل على انهيار السلطة الفلسطينية وصولاً لتحويلها الى «ضابط أمن» يتواصل مع الحاكم العسكري، وليس الحكومة الإسرائيلية، أي الى نوع من «سعد حداد» فلسطيني.
هل هذه الحالة الفلسطينية تدعو الى اليأس والاحباط والاستعداد لدفن القضية الفلسطينية، خصوصاً أن تجفيف «مستنقعات الربيع العربي» ما زال بعيداً؟
توجد طروحٌ كثيرة، منها إعلان فلسطين دولة تحت الاحتلال، والعودة الى صيغة حركة تحرير وطني. أيضاً نقل القدس من قضية مواقع دينية مقدسة فقط الى قضية إرث حضاري يضفي على الضفة الغربية الصفة الوطنية.
أيضاً وأيضاً أن تبقي «الهبّة» على جذوة النار الوطنية، الى حين «الهبّة» الكبرى. هناك الكثير من الحلول المطروحة والكامنة. الأهم ألاّ ينسى العالم وخصوصاً العرب مهما كانت جراحهم عميقة وأيديهم مكبّلة أمَّ قضاياهم فلسطين، لأنه إذا ماتت فلسطين مات العرب قبل الآخرين؟!