أمّا وقد انقشع غبار المعارك الانتخابية التي لم توفّر دائرة من شظاياها، بعدما حوّلت «النسبية» المشهد التنافسي حلبات نزاعات مزدوجة، واحدة بين الخصوم وأخرى بين الحلفاء والشركاء و»الرفاق»… فقد حان وقت جردة البيدر.
ولتلك الجردة قواعدها الخاصة التي يُنظر اليها بعين سياسية، قد تتجاوز لعبة الأرقام والأعداد، إلى التوازنات الكبيرة التي تتحكم بالمعادلة الداخلية، سواء في تركيبة مجلس النواب أم في التشكيلة الحكومية التي ستعكس خريطة مجلس 2018.
128 نائباً دخلوا مجلس النواب على حصان «النسبية». بعضهم أثبت «فروسيته» والبعض آخر فوجىء مع داعميه، بتسجيله «فلتة شوط» لينال «اللوحة الزرقاء». لا شك في أنّ المقارنة بين أرقام الأصوات التفضيلية التي حقّقها الفائزون غير جائزة، نظراً للتفاوت بين أعداد الناخبين في كل دائرة. لكن من مفارقات القانون الانتخابي الجديد، مثلاً، فوز مرشّح بـ77 صوتاً تفضيلياً فقط (ادي دمرجيان عن مقعد الأرمن الأرثوذكس في زحلة).
الأهم من ذلك هو تشريح مجلس النواب، في توازناته السياسية التي ستكرّس أداء القوى والأحزاب والتيارات في الأيام المقبلة. الأكيد أنّ مرحلة ما بعد الاستحقاق النيابي لن تكون شبيهة بمرحلة ما بعد انتخاب الجنرال ميشال عون رئيساً للجمهورية. ليس من باب اعتبار الأخير أنّ حكومة عهده الأولى هي حكومة ما بعد الانتخابات، وإنّما ربطاً بالمتغيّرات التي طرأت على التحالفات والتفاهمات وتداعياتها…
بكلام أوضح، ما زرعته القوى السياسية في أدائها الحكومي، ستحصده غداً في المقاربات الجديدة التي ستحكم توازن مجلس النواب، ومن بعده التوازن الحكومي.
لا بدّ بداية من تسجيل أولى خلاصات نتائج السادس من أيار، وهي:
– وحده الثنائي الشيعي تمكّن من تحصين ساحته بضمّ كل المقاعد الشيعية الى حصته، بعدما أبدى النائب المنتخب مصطفى الحسيني تأييده لرئيس مجلس النواب نبيه بري غير مغادر مربّع الشراكة مع النائب المنتخب فريد هيكل الخازن. وبالتالي خرج الثنائي الشيعي بانتصار نظيف.
فيما «تكتل لبنان القوي»، الأكبر نيابياً، يواجه خصومة مسيحية من تكتلات نيابية توزايه حجماً، حتى لو لم تلتقِ في تجمع واحد، لكن خصومة رئيس «التيار الوطني الحرّ» جبران باسيل تجمع أكثر من ثلاثين نائباً مسيحياً.
الوضع نفسه ينسحب على رئيس تيار «المستقبل» سعد الحريري الذي يضمّ 21 نائباً، بعدما لامس «تكتل لبنان أولاً» لحظة قيامه في العام 2009 الـ40 نائباً. لكنّ الرجل يواجه اليوم خصومة 10 نواب سنّة، أقله غير مؤيدين له إن لم نقل معارضين.
– صار في جعبة الثنائي الشيعي مع حلفائه، من غير «التيار الوطني الحر» ثلث معطّل، سبقَ للأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله أن سمّاه «الحصانة السياسية للمقاومة». وللتحديد أكثر، صار هناك 44 نائباً من هذا الخط. وبالتالي، لا يمكن لأيّ قرار كبير أن يمرّ في مجلس النواب اذا مارس «حزب الله» وحركة «أمل «فيتو» عليه. ويفاخر هذا الثنائي بأنّ تحالفاته الانتخابية كانت سياسية بامتياز، ولا خشية بالتالي من تشققات مستقبلية في هذه الجبهة، أو تسلل من صفوفها نظراً لاقتناع أعضائها بالخيار السياسي.
– تدلّ المؤشرات، أو بالأحرى تراكمات خلافات حكومة سعد الحريري ومقتضيات التفاهمات المستجدة، على أنّ مجلس النواب يتّجه الى فرز جبهتين: الأولى تضمّ تحالف «التيار الوطني الحر» وتيار «المستقبل»، والثانية تضمّ حركة «أمل»، الحزب التقدمي الاشتراكي مع حلفائه، تيار «المردة»، و«القوات»… وما استحقاق رئاسة المجلس الّا المحطة الأولى لهذا الفرز.
لا بل أكثر من ذلك، تلتقي مكوّنات الجبهة الثانية عند تقاطع بارز هو الخصومة لرئيس «التيار الوطني الحر» الذي خرج من الاستحقاق بـ30 نائباً لتكتله، وأكثر من 40 نائباً خصماً من مختلف الطوائف… اذا ما افترضنا أنّ نواب 8 آذار المستقلين لم ينضموا الى قافلة الخصومة أيضاً.
بناء على هذه المشهدية، تصبح المشاورات المرتقبة لتأليف حكومة البرلمان الأولى، معجونة بالتعقيدات: سيكون على «التيار الوطني الحر» التعاطي بعقل بارد مع واقع حجم الكتلة «القواتية» التي بلغت 16 نائباً. وبالتالي، إنّ استبعادها أو تحجيمها حكومياً، مسألة مستحيلة.
كذلك سيكون لزاماً على الرئيس سعد الحريري التعامل بواقعية مع الشراكة السنية المستجدة التي يمثّلها أكثر من 10 نواب سنّة، ولو أنهم غير متحالفين، لكنهم بالنتيجة سيطالبون بتمثيلهم حكومياً. فضلاً عن عقدة وزارة المال التي يتعامل معها الثنائي الشيعي على أنها خطّ أحمر، وحده الرئيس نبيه بري يملك قرار التحكّم به… كلها مؤشرات تدل الى أنّ الولادة الحكومية ستكون صعبة جداً.