لم يخطر في مخيلتي المهنية إنني سأكتب ذات يوم «رسالة من تحت… النفايات»!
وعندما ستؤرخ هذه المرحلة في لبنان سيكون مستغرباً ان يقال أن أزمة لتصريف النفايات أودت بالوطن الصغير المرهق في ألف هم وهم، وعادت به الى العصور الوسطى، حتى لا نبالغ بالقول إننا نعايش في بيروت هذه الأيام ردة نحو عصور غابرة من التخلف الذي وضع لبنان على شفير السقوط في هاوية سحيقة.
كلام كثير قيل وسيقال في أحداث لبنان وسنحاول الإضاءة على أهم النقاط.
أولاً: أزمة نفايات بيروت وسائر المناطق اللبنانية أكثر من انتفاضة وأقل من ثورة، وحدثت في أكثر الأوقات حراجة على الصعيد الوطني، حيث لا تزال الجمهورية بلا رأس بعد هذا الوقت الطويل، وليس في الأفق ما يشير الى نهاية وشيكة لهذا الوضع المأزوم. يضاف الى ذلك حالة شلل عام على صعيد السلطتين التشريعية والتنفيذية حيث مجلس النواب معطل وممنوع من ممارسة دوره الدستوري، والحكومة مطوقة بأكثر من مطلب، ما حوّل عملها الى سلحفاتي الطابع نظراً الى ما يعصف بها من خلافات ونزاعات. فالحكومة التي يرأسها من اطلق عليه «ايوب العام 2015» الرئيس تمام سلام تتألف من 24 كانتوناً حيث يتمتع كل وزير بنوع من الاستقلال الذاتي، او ان كل عضو من «حكومة الضرورة» يعتبر نفسه رئيساً للجمهورية باعتبار ان الدستور ينص على انه عند خلو مقعد الرئاسة لأي سبب تناط مهمات الرئيس باعضاء الحكومة.
ثانياً: ونمضي في توصيف ما تشهده شوارع بيروت وبعض المناطق، لنلاحظ ان الأزمة بدأت أزمة نفايات لكنها ما لبثت ان تحولت مسلسلاً من الأزمات. فما قيل عنه انه «حراك شعبي» توسع ليصير أشبه بصحوه شعبية عارمة جمعت كل اصحاب المواجع في التجمعات الشعبية التي ضاقت بها ساحتا الشهداء ورياض الصلح.
لقد كشف هذا الحراك عما يختلج في صدور اللبنانيين على اختلاف طبقاتهم وطوائفهم ومذاهبهم ومناطقهم من أزمات ومطالب تمثل الحد الأدنى من الحياة الكريمة للشعب اللبناني.
وهنا لا بد من التوقف عند مجموعات من الشباب والصبايا الذين ايقظوا هذا الحس الشعبي العارم، وطرحوا كل الشعارات التي توحد اللبنانيين على رغم انقساماتهم العميقة، وما إن ظهر بعض أعضاء هذا الفريق على شاشة التلفزة لشرح ابعاد تحركهم حتى بدا الجمهور اللبناني انه أمام مجموعة عقائدية تقدم الطروحات الفاعلة والمؤثرة في نفوس الناس.
وفي إطار المطالب التي أعلنت عنها مجموعات الحراك الشعبي ومنها استقالة وزير البيئة محمد المشنوق، واستقالة ومحاكمة وزير الداخلية نهاد المشنوق، قال وزير البيئة للمعتصمين ان استقالته لا تفيد وان الوقت غير ملائم لذلك، اما وزير الداخلية فاجاب: ان الحزب الشيوعي هو الذي يطالب باستقالته، ولذلك فهو لن يستجيب لهذه الدعوة. وفي كلام الوزير المشنوق اشارة واضحة الى وجود طروحات ايديولوجية ذات اتجاه يساري. وهنا يطرح السؤال: هل ان امر الحراك ينطوي على روح ثورية تريد العمل على «اسقاط النظام» كما أعلنت، وان هذا المطلب تم تغليفه بقضايا حياتية ومطلبية من النفايات الى الكهرباء والمياه؟
لكن الحراك اتخذ على الفور طابع التفريق بين اعضاء البرولتياريا الشعبية والهيئات الاقتصادية المتهمة بجمع الأموال على حساب اللبنانيين. وفي سياق متصل أطلقت بعض التصنيفات على محركي التظاهرات كالقول بأن لبنان يشهد «ثورة ثقافية مادية اقتداء بما حدث في الصين من ثورة اجتاحت الملايين من افراد الشعب الصيني.
ثالثاً: يتزامن ذلك مع انعقاد جلسات الحوار بين رؤساء الكتل النيابية برئاسة عراب الحوار الرئيس نبيه بري، الذي كان يعلم مدى صعوبة انعقاد حوار يمكن ان يفضي الى «حلحلة» بعض العقد ابتداء بأزمة استمرار الشغور في الرئاسة الاولى، ومع ذلك شاء ان يقدم فرصة عبر الحوار بين مختلف ممثلي الطوائف. لكن بعد انقضاء جلستين، والدعوة الى عقد جلسة ثالثة الثلثاء المقبل قبل اجازة عيد الاضحى، باتت موافقة الأعضاء الستة عشر على المشاركة كأنه انجاز كبير.
وننظر الى الطاولة المستديرة في مبنى مجلس النواب في ساحة النجمة لنلاحظ ما يلي:
لقد بدا المتحاورون بالطريقة التي تم توزيع مقاعد المشاركين وكأنهم مجلس قبلي يضم ممثلين عن القبائل اللبنانية على اختلاف طوائفهم، اقرب ما يكونون الى مجلس «اللويا جيرغا» الافغاني الأصل. لكن وفي التصور العام للواقع اللبناني الآن يتجه لبنان الى اعتماد صيغ للتعاطي بين صناع القرار او من تبقى منهم كلها غير دستورية، كالحوار الأخير في مجلس النواب، او كالحوار الآخر بين «تيار المستقبل» و «حزب الله»، ويجري اعتماد كل ما يتفق عليه وكأنه قرارات تتمتع بالشرعية الدستورية، وحقيقة الأمر ليست كذلك.
رابعاً: ونندرج في شؤون وشجون الوطن الصغير المعذب لنلاحظ بداية تحرك دولي جديد باتجاه لبنان لم يكن قائماً منذ وقت غير قصير. وفي هذا إشارة الى الزيارة الخاطفة التي قام بها رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون. كذلك ينتظر ان يقوم الرئيس الفرنسي فرنسوا هولند بزيارة بيروت قبل نهاية الشهر الجاري، ويتردد ان زيارات رؤساء الدول في هذه الفترة تركز على الجهود الآيلة الى اخراج لبنان من مأزق الاستحقاق الدستوري الأول، ألا وهو انتخاب رئيس جديد للجمهورية. والمؤسف في هذا الحال الفشل الذريع الذي مني به الزعماء اللبنانيون في شأن المحافظة على «لبننة» هذا الاستحقاق، وتوجيه دعوة مفتوحة الى «الخارج» للمساعدة على «انتاج» رئيس جديد يخرج لبنان من أزمته الحالية وما ينتظره في آتي الايام والاسابيع.
وعلى الصعيد الدولي ايضاً، لوحظ أنها كانت المره الأولى التي تداعى فيها اعضاء مجلس الأمن الدولي لعقد جلسة خاصة بلبنان، وورد في البيان الصادر عنهم ما حرفيته: «تبدي الحكومة اللبنانية عجزاً كاملاً عن حل ازمة النفايات المستمرة منذ أكثر من شهر على رغم التظاهرات التي تشهدها البلاد وتصعيد ناشطي المجتمع المدني تحركاتهم الاحتجاجية ضد الشلل الحكومي والفساد».
وهكذا باتت أزمة النفايات ازمة عالمية. وتأكيداً للتعبير عن الاهتمام الدولي ولو النظري، أعلن السفير الروسي فيتالي تشوركين الذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية لمجلس الأمن لهذا الشهر: «ان الدول الأعضاء في مجلس الامن جددت التأكيد على ضرورة ان يلتئم البرلمان اللبناني وينتخب رئيساً للجمهورية في اسرع وقت ممكن لوضع حد لحالة الاضطراب الدستوري… ومجلس الأمن مستمر في مراقبة الوضع عن كثب دعماً لوحدة لبنان وسيادته واستقراره واستقلاله».
وهنا مفارقة تصفع. كيف يمكن للبنان ان يوجه العتب للمجتمع الدولي لأنه لا يتدخل للمساعدة في انتخاب رئيس ويفشل زعماؤه في تضييق فجوة خلافاتهم وإخراجه مما هو فيه وعليه؟ هل المطلوب ان يكون العالم لبنانياً اكثر من اللبنانيين او من بعضهم على الأقل؟
ونتساءل: هل يبحث لبنان عن عاصمة عربية جديدة تحمل حلاً لأزماته؟ ولبنان من أصحاب السوابق في هذا المجال؟ وهاكم بعض الأمثلة:
لقد منحت مدينة الطائف السعودية اسمها للاتفاق التاريخي الذي انهى الحرب اللبنانية بعد خمسة عشر عاماً، فأصبح لدينا «اتفاق الطائف» الذي تحول جزءاً لا يتجزأ من الدستور. لكن كان يفترض فيه ان يشكل حلاً للازمة اللبنانية فاذا به وبعد ربع قرن يصبح هو المشكلة، لأن تنفيذ بعض بنوده جاء إما بصورة انتقائية وغير دقيقة او متجاهلاً للبنود الأخرى.
ثم منحت العاصمة القطرية الدوحة اسمها لاتفاق ادى في حينه الى ازالة احداث «7 ايار»، والاتفاق على انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية.
والسؤال المطروح: ما هي العاصمة العربية التالية المرشحة لأن تكون عاصمة لحل الوضع اللبناني المأزوم؟
تبرز العاصمة العمانية مسقط لاستضافة «مبادرة ما» تساعد لبنان على الخروج من الأزمة الراهنة التي باتت تشكل تهديداً بالغ الخطورة على الوضع ككل. ومعلوم ان سلطنة عمان تنتهج منذ تولي السلطان قابوس بن سعيد الحكم في السبعينات سياسة متوازنة ومنفتحة على مختلف دول الجوار. وتعتمد في ذلك الشعار التالي: مع أهل الخليج والعرب والعجم… اذا ما اتفقوا، وعلى الحياد التام اذا ما اختلفوا. اضافة الى ذلك فعمان تحافظ على علاقات جيدة ومتينه مع ايران وتتقاسم معها السيطرة على مضيق هرمز الاستراتيجي والمهم، حيث يمر عبره العديد من ناقلات النفط ويشكل ما يزيد على اربعين في المئة من النفط العالمي.
بدأنا بلبنان وننتهي به، وبعد…
بقطع النظر عما ستؤول اليه «انتفاضة النفايات» من تسوية على الطريقة اللبنانية التقليدية، فما عبرت عنه هذه المجموعات الشعبية الحاشدة من مشاعر الغضب تجاه «الطقم السياسي»، لم يعد في الامكان تجاهله وتجاهل «مشاعره الثورية». وعلى القائمين بالانتفاضة ان يوحدوا مطالبهم باعتبار ان مجموعات متعددة التسميات برزت خلال الأزمة، وكذلك على «قادة الحراك» إطلاق شعارات ومطالب يمكن ان تلقى التجاوب العملي. فمثلاً عندما يطالب الحراك الشعبي بـ «إسقاط النظام»، فهذا لن يحدث، ليس لأن النظام القائم يتمتع بالحد الأدنى من الصدقية، بل لأن هذا المطلب غير واقعي، وترداد شعار «الشعب يريد اسقاط النظام» ليس ممكناً تحقيقة، وبقية المطالب تحتاج الى وقت طويل للتنفيذ. لقد كان للحراك الذي اشعل شرارة «انتفاضة النفايات» الاثر الكبير في نشر الصحوة الجديدة والتنبيه الى كل ما يحتاج اليه لبنان في هذا الزمن الصعب، وبامكان اللجان التي تقود الحراك متابعة المطالب ضمن خطة عمل منظمة تؤدي الى ثمار محددة وتعمل على اخراج لبنان مما هو فيه وعليه.
ومن المفارقات في المشهدية اللبنانية ان الجمهورية بلا رأس… فيما الحراك الشعبي برؤوس عدة.
ولتبدأ خطة عمل التغيير بتوحيد مواقف ومطالب وجهود قادة هذا الحوار، حتى لا يقال ان ما من شيء يتبدل في لبنان حتى مع قيام الانتفاضات الشعبية التي ايقظت كل الخلايا النائمة على الساحة اللبنانية.
رسالة من تحت النفايات في بيروت!