الحلبة السياسية في لبنان سيطغى عليها اليوم مشهد نادر. القادة السياسيون، الذين يفترض أنهم يمسكون بمفاتيح الشارع ويوجّهونه ويتحكّمون بحركته، سوف يعقدون جولة للحوار. لكنهم، وفيما هم يتحاورون، ستحاصرهم «جماهيرهم» الغاضبة، الخارجة من قواعدهم المطيعة، لتهتف ضدّهم وضدّ نظامهم السياسي. سوف تتهمهم بالتنكر للأمانة، وتنعت النظام بالفساد والفشل والشلل، والوصول بالبلاد إلى شفير الهاوية.
لكن، مهما اشتدّت الحماسة خارج قاعة الحوار، وارتفعت نبرة الخطباء، أو تطرّفت هتافات المتظاهرين، لن يصاب القادة بالهلع. فهم يعرفون حدود الحراك في محيط البرلمان، والقدرات المتواضعة للمجتمع المدني التي تمنعه من خوض مواجهة حقيقية مع أرباب النظام.
مع ذلك، ليس من الحكمة الاستهتار بحركة الشارع. إن تجاهل أصوات المحتجين وشكواهم يقع في خانة الخطأ الجسيم. صحيح أن حراك الشباب عاجز عن قلب التوازنات، وإزالة سلطة لإقامة سلطة بديلة، لكن «أطروحتهم» التي يصدحون بها في قلب بيروت هي أوضح صورة وأبلغ تعبير عن نظرة المجتمع إلى النظام وأربابه.
اللبنانيون مقيّدون، ومتقيّدون، أولا بولائهم الطائفي. وإن كانت صرخات شبابهم لن تنتج ثورة سياسية اجتماعية لتغيير النظام، فهي تعكس صورة النظام وأربابه تماما كما هي في أذهان الناس. من الضروري أن يستوعب المتحاورون هذه الصورة، وأن يستمعوا بانتباه واهتمام إلى الأصوات الصادحة في محيط المجلس النيابي والسرايا الكبيرة، لأن النظرة بالغة السلبية للنظام لن تنتج نظاما ديموقراطيا بديلا، ولكنها قد تنتج فتنة تحرق البلد.
في تاريخ لبنان الحديث أمثلة لا تحصى عن حركات اجتماعية صاخبة، بقيت تتصاعد حتى تحوّلت في نهاية المطاف إلى حرب أهلية. حرب 1975 سبقتها سنوات من الانتفاضات الاجتماعية التي عبّرت عن الشكوى من الفقر والحرمان ومن فساد بعض المتحكمين بالنظام. يتذكّر الوزير رشيد درباس تظاهرة كانت تسير في طرابلس قبل الحرب المشؤومة، وهي تهتف «شوف، بصّ، 12 لصّ، و99 حرامي».
يرجى ألا تنتهي هتافات اليوم إلى ما انتهت إليه، شبيهتها، هتافات الأمس.
ولأن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الخانقة تخلق المناخ الملائم لصعود الحراك الشعبي، على تنوّع شعاراته واتجاهاته، بإمكان «أهل الحلّ والربط» الذين يجتمعون اليوم في ساحة النجمة المساهمة في تخفيف التوتّر الاجتماعي، عبر خطوة مهمّة لتيسير اتخاذ القرارات والحدّ من المعاناة الاجتماعية. خطوة ظاهرها موجز وبسيط، لكن باطنها يمسّ جذور الفساد.
المقصود فصل إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية عن الصراع السياسي وتبعاته بتشكيل حكومة مصغّرة ضمن مجلس الوزراء، تضمّ مختلف الكتل المشتركة في الحكومة، تأخذ على عاتقها درس واقتراح كل ما يتعلق بالاقتصاد أو يؤثر عليه تأثيرا مباشرا. وتنبثق «الحكومة الاقتصادية» من اتفاق مبدئي بين مكوّنات الحكومة بأن تمارس وظائفها بمعزل عن مقتضيات الصراع السياسي، وبأن تتعاطى الحكومة مع قراراتها بالإيجابية والتعاون.
وفيما يهتمّ وزراء الحكومة الاقتصادية بقضايا المالية العامة والدين العام والاستثمارات العامّة ويشرفون على قطاعات الخدمات والطاقة والاتصالات، يبقى للوزراء في الحكومة الموسّعة مجال كبير للعب السياسة والمناورات والمماحكات وتقاسم المنافع، والتعطيل عند اللزوم، عبر السياسة الداخلية والخارجية ومواضيع الأمن والتعيينات.. وقانون الانتخاب وسواها.
في هذه الفكرة الكثير من الطوباوية، لأنها تتطلب تجرّدا كبيرا من أصحاب القرار. ولكن ما يبرّر طرحها أن مساحة المنافع في «كعكة» الدولة باتت أضيق من أي وقت، فيما تتسع بسرعة قياسية مخاطر الإدارة السيئة للاقتصاد ولمرافق الدولة وخدماتها.
تتدهور مؤشرات التنمية البشرية ويذوب الدخل الفردي وتتآكل القيمة الحقيقية للمدّخرات وتعويضات نهاية الخدمة، ويسجّل الأداء الاقتصادي خطا تراجعيا ثابتا. على رغم التأثيرات الإيجابية المفترضة لتراجع سعر النفط، سجّلت مؤشرات الاقتصاد اللبناني في الفترة المنصرمة من هذه السنة مجموعة من النتائج السلبية قياسا بالعام الماضي، الذي كان سيئا على كل حال. معدّل نموّ ضعيف، ينعكس سلبا على سائر القطاعات، زيادة في عجز الموازنة قياسا بالعام الماضي، وتجاوز الدين العام عتبة 70 مليار دولار. عجز كبير في ميزان المدفوعات، رغم انخفاض عجز الميزان التجاري والواردات بنسبة الخمس تقريبا.
صحيح أن الحراك الذي يحاصر المتحاورين لن يغيّر لبنان ولا واقعه السياسي، ولكن حناجر العناصر النظيفة والمستقلة في الحراك تبعث إلى القادة المتحاورين بإنذارات مقلقة، ممزوجة بالهتافات.
لقد آن أوان التصرّف، قبل فوات الأوان.