في الوقت الذي أُصدر فيه القضاء المصري حكماً قضائياً بعدم دستورية قرار وزير الداخلية إلغاء التظاهرات في البلاد. لم نتفاجأ في لبنان، أو بما يعرف ببلد الحريات والديموقراطية، ببداية العهد الجديد، بقرارات تحصيل المالية الصادرة عن المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخلي في وزارة الداخليّة. إذ طالبت فيه عدداً من المُشاركين في تظاهرات «الحراك المدني» بدفع مبالغ مالية ثمناً لأعتدة استعملتها القوى الأمنيّة لقمعهم وفضّ تظاهراتهم بالقوّة، وكذلك نفقات معالجة العناصر المصابين وبدل مدّة تعطيلهم عن العمل.
أمّا أغرب ما في القرار هو طلب دفع 39 مليون ليرة ثمن القنابل والرصاص المطاطي.. حتى أن القرار لم يلحظ ذكر مياه الإطفائية التي أصابت عدداً من المتظاهرين في عيونهم، تلك المياه وصفها أحد الناشطين على موقع التواصل الاجتماعي بـ «مياه زمزم» التي يتوجب على المتظاهر دفع الملايين، جرّاء مباركتها له.
لم يتعب هذا النظام البوليسي في حيله ومحاولاته المتكررة لقمع أي حركة احتجاج تعرّي ممارسته وسياسته، وترهيب المتظاهرين وحثهم على التراجع عن المطالبة بحقوقهم والوقوف في وجه محاصصاتهم وفسادهم، مستخدماً العديد من أساليب القمع الوحشية والحجج الواهية وحتى الجدار الفاصل، علّه يقيهم غضب شعب طمر في نفايات من جراء سياساتهم الفاسدة، وقرر النزول إلى الشارع ليمارس أدنى حقوقه وهي التظاهر والاعتصام للمطالبة منذ أكثر من سنة بحل أزمة النفايات العضوية المكدّسة على الطرقات وفي الجبال والوديان، والتي تتسرب سمومها إلى طعامنا ومياهنا عبر تلوث التربة والمزروعات والمياه الجوفية، ناهيك عن تلوث الهواء واستنشاقنا سموم محارق النفايات وعصائرها.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، بغضّ النظر عن بدعة تغريم المتظاهرين، لماذا هذا التوقيت بالذات؟ وهل هو مصادفة، أو تهديداً مبطناً ليتراجع المحتجون على ما يحصل من تعديات تطال الأملاك العامة، لاسيما البحرية منها، كالقضية المتعلقة بشاطئ الميناء شمالاً، الذي كان مصنّفاً ضمن الأملاك العامة البحرية في دوائر الدولة اللبنانية. ولكن بقدرة قادر أصبحت تلك البقعة أرضاً مصنّفةً ملكاً خاصاً بدءاً من نهاية العام 2015. والأبرز قضية الاعتداء على شاطئ الرملة البيضاء من قبل مشروع «الإيدن روك» التابع لعلي وسام عاشور والمرتبط باسم شركة ورثة الحريري؟!
ما هي المادة 45؟
تحدّد المادة 45 من قانون المحاسبة العموميّة، كيفيّة تحصيل ديون الدولة ووارداتها الأخرى، وهي أعطت لرؤساء الإدارات إصدار أوامر تحصيل بالديون والواردات التي لم تعيّن القوانين النافذة طرق تصفيتها وتحصيلها وإجراء الملاحقة بشأنها، وفقاً للأصول المتبعة في تحصيل الضرائب المباشرة والرسوم المُماثلة لها.
قانونياً، فإن تحصيل حقوق ماليّة من مواطنين عن أضرار مرتكبة منهم تستوجب تحقيقاً وكشفاً عن الأضرار وقراراً قضائياً، كما أن الاعتداء على عسكريين أو عتاد عسكري هو جناية يعاقب عليها القانون بموجب قرار قضائي يصدر عن المحكمة العسكريّة، إلّا أن وزارة العدل تحيل الموضوع إلى وزارة الداخليّة والبلديات، باعتبار أن لقوى الأمن الداخلي، بموجب نظامها، أن تغرّم من يخالف القانون.
وقد استندت المديريّة إلى أحكام هذه المادة لطلب دفع هذه المبالغ لمصلحة الخزينة في وزارة الماليّة، على أن يكون للمُطالبين حقّ الاعتراض على أمر التحصيل خلال شهرين من تاريخ التبليغ، من دون أن يوقف الاعتراض التنفيذ، إلّا إذا قرّرت المحكمة ذلك.
القرار غير القانوني
يطبق على هذا القرار مقولة «شاهد ما شافش حاجة»، إذ ان أي قرار قضائي يُفترض صدوره بناءً على تحقيق، وهو ما لم يحصل في هذه الحالة، بحيث لم يستدعَ أي من المكلفين لأخذ إفادته والتحقيق معه، وتبيان العتاد والأملاك المتضرّرة. في المقابل، أين التحقيقات بالقمع الذي مارسته القوى الأمنية وآمريها على تظاهراتٍ سلمية، ألحقت الأذى بمتظاهرين عزّل وملاحقتهم حتى إلى المستشفيات واقتيادهم إلى الاعتقال من دون أي حق. وأين حق بعض المصابين في هذه التظاهرات والتعويضات عن الضرر الجسدي اللاحق بهم نتيجة القمع الوحشي المُمارس ضدهم؟!
صدرت أوامر تحصيل عدة لعشرات المشاركين في الاحتجاجات على أزمة النفايات الصيف الماضي، وأبرزها أمران حديثان موقّعان من المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء إبراهيم بصبوص. الأول رقم 13378 تطلب فيه المديريّة من 13 شخصاً دفع مبلغ 3 ملايين و817 ألف ليرة لبنانيّة، نفقات معالجة العناصر المصابين وبدل مدّة تعطيلهم عن العمل وثمن الأعتدة المتضرّرة في خلال ما وصفتها بأعمال الشغب الحاصلة قرب السرايا الحكومية في وسط العاصمة بتاريخ 25/8/2015. والثاني صادر بتاريخ 17/11/2016 ورقمه 13753 تطلب فيه من عشرات الأشخاص من ضمنهم بيار الحشّاش، حسين إبراهيم، محمد الترك، خلدون جابر، وارف سليمان، وخضر أبو حمدة دفع 39 مليون و610 آلاف ليرة لبنانيّة، نفقات معالجة وبدل مدّة تعطيل العناصر المصابين عن العمل وثمن الأعتدة المتضرّرة لفضّ التظاهرة التي أقيمت في وسط العاصمة قرب «فندق لوغراي» بتاريخ 8/10/2015.
هكذا تتحفنا السلطة بقرارات غير قانونية وادعاءات على شعب ضاق ذرعاً بسياساتها، فهل سيكون العهد الجديد متجدداً، أو ممدداً لتلك السياسات الفاسدة؟