كثيرون ممَّن شاركوا في تشييع الرئيس الراحل عمر كرامي في طرابلس رأوا في ضخامة التشييع وخُلوِّه من أيّ مظهر مُخِلٍّ بالأمن أنّ الأمرَ كان أكثرَ من وداع زعيم لبناني له مكانةٌ كبيرة بين اللبنانيين وسليل بيتٍ استقلاليّ عريق.
لقد فوجئ كثيرون من المشاركين من غير الطرابلسيين وبينَهم مسؤولون ومواطنون عاديّون بصورة مختلفة لطرابلس عن تلك الصورة النمطية التي سعى كثيرون إلى ربط عاصمة الشمال بها، وهي صورة التوتّر الأمني والتجييش الطائفي والحديث عن إمارة في المدينة ذات التراث الوحدويّ العريق.
ولقد خرجَت طرابلس بكلّ أبنائها وتياراتها وأحزابها وشخصياتها في مسيرةٍ جالت معظمَ شوارعها واختلطَ فيها المسؤولون بالمواطنين بعيداً من كلّ احتراز أمني تتطلّبه الظروف الأمنية التي عاشتها المدينة.
بعض الذين شاركوا في التشييع شعروا بأنّ وطناً جديداً يولد مع رحيل الرئيس عمر كرامي، وأنّ المدينة التي كان يُراد لها أن تكون عاصمةً للفتنة حمَلت في الأمس مشعلَ السِلم والأمن والأمان والوحدة الوطنية، فظهرَ في وضوح أنّ في طرابلس بيئةً حاضنة للدولة والاستقرار والاعتدال، وهذه البيئة هي التي مكّنَت الجيشَ من أن يحسمَ أمرَ المدينة الأمني في أيام قليلة.
ويعتقد بعض الذين شاركوا في التشييع أنّ هذا الاستفتاء الذي ظهرَ في جنازةِ كرامي هو استفتاءٌ على رغبةٍ حقيقية عند اللبنانيين بهجرةِ الغُلوِّ والتطرّف، والتمسّك بالعيش المشترَك، وأنّ هذه الجنازة ـ الاستفتاء قد لا تكون آثارُها محصورةً بعاصمة الشمال، بل إنّ ما جرى من حفاوةٍ في استقبال موكب التشييع في البترون بوّابةِ الشمال والقلمون بوّابةِ طرابلس هو تأكيدٌ على أنّ المزاجَ الطرابلسي هو مزاجٌ شماليّ عامٌّ، له قوّته في البترون والكورة وزغرتا وبشرّي، وكذلك له قوّتُه في أحياء طرابلس وعكّار والضنّية.
ويستطرد هؤلاء المشاركون في القول «إنّه مزاجٌ لبنانيّ عامّ، على رغم كلّ محاولات النَفخ المذهبي والتحريض الطائفي التي تشرف عليها جهاتٌ تتأرجَح بين خدمة مخطّطات مشبوهة وبين الانقياد وراءَ مصالح صغيرة عابرة».
ويرى بعض المشاركين في التشييع أيضاً «أنّ المزاج الطرابلسي واللبناني الذي منعَ انتقالَ الفتنة بأوسع أشكالها إلى لبنان هو مزاجٌ عربيّ وإقليمي أيضاً. وفي هذا السياق، يقول أحد السياسيين المخضرمين: كنّا نقول في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته إنّ في لبنان حرباً أهلية معلَنة، ولكنّ في الأقطار الأُخرى حروباً أهليةً كاملة تنتظر «بوسطتَها» لكي تنفجرَ مثلما جرى في لبنان بعد حادثة «بوسطة» عين الرمّانة الشهيرة».
ويضيف: «الآن يمكن القول إنّ هناك رغبةً حقيقيةً في السلام والأمن والاستقرار في لبنان، وهناك رغبة كامنة بهذا السلام والأمن والاستقرار في دوَل مشتعلة بحرائق الاقتتال الأهلي».
ويذهب هذا السياسي المخضرم إلى القول أيضاً: «إنّ ما رأيناه في طرابلس له بلا شكّ أسبابه الطرابلسية واللبنانية، خصوصاً في سلوك الوزيرالسابق فيصل عمر كرامي الذي بات محنّكاً في مدّ الجسور من دون أن يضيّعَ الجذور.
ولكن علينا أن لا ننسى أنّ وراء هذه التظاهرة السلمية التي ودّعت الرئيس عمر كرامي إيجابيات تلوح في المنطقة وفي العالم، حيث النزاع على أشدّه بين مَن يريد التصعيد وبين مَن يريد التهدئة، وإنْ كانت كفّة أهل التهدئة ترجح شيئاً فشيئاً على كفّة أهل التصعيد».
ويستدرك السياسي المخضرم قائلاً: «علينا أن لا ننامَ على حريرِ ما رأيناه في طرابلس، فأكثرُ من جهة متطرّفة تعِدّ اليوم في مطابخها ما يُفسِد هذا الجوّ السلمي الجميل، ففسادُ المطابخ بات سِمةً من سِمات الحياة اللبنانية، على غرار ما تكشفه مداهمات وزير الصحة وائل ابو فاعور.
ومن هنا ينبغي تحصين هذا المشهد الطرابلسي بكلّ إيحاءاته، وأن يستمرّ اللبنانيون في حوارٍ لتجاوزِ كلّ الانقسامات الحاليّة، فلقد علّمَتهم التجارب أنّ الحوار مكسَبٌ للجميع، وأنّ غيابَه أو تعطيلَه خسارةٌ للجميع ايضاً، فبين حوار عين التينة بين حزب الله وتيار «المستقبل» ومشهد الوداع الطرابلسي للرئيس كرامي، وبين لقاء منتظَر بين الرابية ومعراب، لا ينجَح اللبنانيون في دفعِ الحريق بعيداً عن بلدهم، بل يقدّمون نموذجاً في إطفاء الحرائق في المنطقة كلّها.
ألم يتحدّث الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله يوماً عن طائف عراقي ـ عراقي يمنَع احتلالَ العراق ويصون وحدتَه دائماً، مثلما نجحَ الطائف اللبناني بذلك في وقفِ الحرب وتفرُّغ اللبنانيين لتحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي؟
كان كثيرون في المنطقة والعالم يريدون أن يطفئوا الشمعة اللبنانية بكلّ دلالاتها، فهل تتحوّل الشمعة اللبنانية منارةً تضيء ظلامَ العَرب؟
رسالةٌ خرجَت من طرابلس، فهل يتلقّفها جميعُ المعنيّين؟