العزيز الشهيد جبران،
لا أدري لماذا قرّرت أن أكتب إليك، عشية الذكرى التاسعة لاستشهادك، لأهمس لك ببعض ما يعانيه هذا الوطن المعذب، وأهله الصابرون، والذي كنت افتديتهم بأغلى ما تملك.
لعلّي تعبت من الكتابة للأحياء.. فرأيت أن أتوجّه إلى الشهداء، علّهم يسمعون في عليائهم ما يصعب على أهل الأرض سماعه، وعلّهم يساهمون في دعواتهم في إيجاد الحلول للأزمات والمشاكل، التي فشل من على الأرض في إيجادها!
ولعلّي بدأت أجاري أكثرية اللبنانيين في يأسهم من الطبقة السياسية الغارقة في صراعاتها الأنانية والفئوية، والمستغرقة في حسابات المحاصصة والمصالح، والمستسلمة لعجزها عن إخراج البلاد من دوّامة الانقسامات التي تتخبط فيها منذ سنوات وسنوات!
مهما كثرت الدوافع والاعتبارات، فسيبقى الدافع الأوّل والأقوى، حقك، وسائر شهداء ثورة الأرز، وفي مقدمتهم الرئيس الشهيد رفيق الحريري، أن تعرفوا أحوال الوطن الذي قدمتم أرواحكم ودماءكم فداء لأمنه واستقراره، وقرباناً على مذبح سيادته واستقلاله.
* * *
يا شهيد القلم،
يحزنني أن أبلغك أن الكلمة الحرة أصبحت محاصرة اليوم، بين نيران الفوضى المسلحة والإرهاب في الإقليم، وبين الضغوطات والأزمات السياسية والاقتصادية في الداخل، الأمر الذي فاقم الصعوبات والتحديات التي تواجهها المؤسسات الصحفية، للحفاظ على مهنيتها وموضوعيتها، ولتأمين استمراريتها، والتغلب على العجز المالي الذي يتهدد معظمها.
مشكلة الصحافة المزمنة أنها لا تلقى من يرفع صوتها عالياً للحصول على حقوقها الطبيعية، والدفاع عن مكتسباتها المشروعة، وهي لا تحظى بأبسط مقادير الدعم والمساندة من الدولة، والقطاعات القادرة، على النحو الذي تناله المؤسسات الصحفية في الدول العربية الأخرى!
* * *
يا شهيد القَسَم،
ما زال صوتك يرن في الآذان مردداً القَسَم الشهير في يوم 14 آذار المجيد: نُقسم بالله العظيم، مسلمين ومسيحيين، أن نبقى موحدين، إلى أبد الآبدين، دفاعاً عن لبنان العظيم.
وفي الوقت الذي كانت معاني وأبعاد هذا القسم الوطني تدغدغ آمال ملايين الشباب بصورة الوطن الواحد، والمنتصر على الطوائف وتجارها، كانت الصراعات المستوردة، والمغامرات الطائشة، تدمّر هيكل الدولة القادرة والعادلة، وتعمل تمزيقاً بنسيج الوطن وطوائفه، حتى أمست المواجهات بين أبناء الطائفة الواحدة هي الحدث الدائم، وأضحت العصبيات بين أتباع المذاهب في الديانة الواحدة، هي حديث كل يوم!
أما لبنان الواحد، فيكاد يصبح لبنانات، لكل طائفة لبنانها، ولكل منطقة ألوانها… أما الدولة فهي في حالة النزاع الأخير.. حتى لا تصبح في خبر كان!
كيف لا.. وهذا الشغور الرئاسي المتمادي يستمر في ظل هذا العجز الفاضح للطبقة السياسية عن انتخاب رئيس للبلاد، يُنهي هذا الوضع الشاذ، والفريد من نوعه في دول العالم أجمع!
كيف لا.. والدولة بكامل قدّها وقديدها، ومع حكومة «الـ 24 رئيساً» تبقى على هذا الإرباك والتردّد في معالجة ملف العسكريين المخطوفين، بعدما تحوّلت هذه القضية الوطنية بامتياز إلى سلعة في بازار المزايدات السياسية والوزارية.
كيف لا.. ومعارك المحاصصة مشتعلة بين أطراف الطبقة السياسية، على قانون الانتخابات العتيد، وبالقدر عينه، إذا لم يكن أكثر، على بلوكات النفط وآبار الغاز، وهذا ما تسبب بتأجيل الانتخابات أكثر من مرّة، وإلى تعطيل عملية إطلاق ورشة النفط الوطنية مرات عديدة، فيما بدأت إسرائيل وقبرص عمليات البحث والتنقيب، وإبرام الصفقات مع كبرى الشركات العالمية!
* * *
يا شهيد التحدّي والشجاعة،
لم تُخيفك يوماً تهديدات، ولم ترعبك انذارات. إيمانك بالوطن وشعبه العظيم كان سلاحك الأقوى في مواجهة التحديات والتهديدات، بكثير من الشجاعة والإقدام، غير مبال لنصائح الأهل والأصدقاء بضرورة الابتعاد عن مواقع الخطر، والبقاء في الخارج.
ما زلت أذكر كلمات الوالد والأستاذ الكبير غسّان تويني، عندما زرته برفقة عميدنا عبدالغني سلام، عافاه الله، في مستشفى الجامعة الأميركية، عشية سفره إلى باريس للاحتفال بالوسام الفرنسي الرئاسي الذي منحه إياه الرئيس جاك شيراك:
– جبران مستعجل العودة إلى بيروت، والجميع يحذره من الخطر، خاصة الفرنسيين، واستطعت إقناعه بالتأخير قليلاً، حتى يحضر معي احتفال الاليزيه.
حضرت احتفال الوسام، وأسرعت بالعودة إلى الشهادة.
يا شهيدنا الغالي،
قدَرك أن تغادرنا بطلاً إلى السماء، وقدَرنا أن نبقى نحن ضحايا العجز والقهر على الأرض!