أناشدك كما في رسالة محمد الماغوط إلى والده في القرية حين قال: «مع تغريد البلابل وزقزقة العصافير، أناشدك الله يا أبي. دع جمع الحطب والمعلومات عني وتعال لملم حطامي من الشوارع قبل أن تطمرني الريح أو يبعثرني الكناسون. هذا القلم سيوردني حتفي، لم يترك سجناً إلا وقادني إليه ولا رصيفاً إلا ومرغني عليه، وأنا أتبعه كالمأخوذ كالسائر في حلمه».
أصدقائي المنتشرين في كل مناطق لبنان من جزين حتى عكار عرضوا علي بيوتاً آمنة حين أقرر النزوح. لكنني أظن، وبعض الظن إثم، أنه لن تظل البيوت آمنة، كل البيوت، إذا ما قرر الوحش الصهيوني أن يكرر في لبنان جريمته في غزة. فضلاً عن أن جيناته التكوينية مصنوعة من الإجرام، فهو ينتظر الفرصة ليثأر لهزيمته عام 2000 ولخسائره عام 2006.
مضى اللبنانيون أفراداً وجماعات، مثلما يمضي «حزب الله» اليوم، كالمأخوذين، كالسائرين في أحلامهم، وراء العصف والقصف والدوي والأزيز ولم يقطفوا غير حرب أهلية دمّرت الوطن وأفقرت المواطنين. قضاياهم كلها عادلة وتستحق التضحية. السيادة والوحدة العربية وتحرير فلسطين والاشتراكية، لكن خطأ الوسيلة بدد عدالة القضايا. حاول كل منا أن يقنع خصومه بالعنف وأن يفتعل إجماعاً مستحيلاً في حضارة التنوع والتعدد.
من حق كل حزب أن يتمسك بعقيدته وأن يناضل على هديها. لكننا لم نعد لا في زمن التبشير الديني ولا في عصر الانتقال إلى الاشتراكية. نحن في زمن الحضارة الرأسمالية التي حاول بعضنا عصيان الدخول إليها وبعضنا الآخر الدفاع عن مفاسدها، لكننا تعلمنا من تجاربنا المريرة وخسائرنا الكبيرة أنّ الزمن يعمل لصالح التنوّع والتعدد والاعتراف بالآخر، أي لصالح الديمقراطية في تنظيم العلاقات بين من يملكون ويحترمون حق الاختلاف.
وتعلمنا من التجارب والخسائر أنّ الصهيونية هي من الأعراض الشريرة لأنظمة تلك الحضارة، وأنّ فساد الأنظمة يطمس فضائل الحضارات، كل الحضارات. في الاشتراكية كما في الإسلام كما في الكنيسة وهي كلها زعمت السعي وراء سعادة البشر، لكن الأنظمة فيها جيّرت هذا السعي لصالح أهل الحلّ والربط في السلطة. هذا ما عبّرت عنه المفارقة بين تأييد الأنظمة الغربية للصهيونية والتنديد الشعبي بجرائمها ولا سيما بعد قصف المستشفى المعمداني.
المخاوف من الحرب هي مخاوف على مستقبل لبنان ومصير شعبه وعلى قضية الشعب الفلسطيني وخصوصاً على «حزب الله» وبطولات مجاهديه. لقد تبدّلت ظروف حرب تموز 2006 فلم تعد المقاومة تحظى اليوم بمثل ذاك الإجماع والاحتضان الشعبي اللبناني ولا بمثل التضامن العربي والعالمي الذي جسّدته مساعدات سخية أعادت بناء ما تهدم، وبات علينا، بعد الحرب على غزة، أن نأخذ على محمل الجد وحشية العدو الصهيوني وتهديده ووعيده، لا لنستسلم له، بل لنعيد النظر بأساليبنا وأدواتنا وآلياتنا، بما يمكننا من الاستمرار في نضالنا إلى أن تنتصر قضايانا العادلة.
استباحة النظام السوري القضية الفلسطينية، يوم كان قادراً على ذلك، كاستباحة «حماس» الوحدة الوطنية الفلسطينية وكاستباحة منظمة التحرير قضيتنا اللبنانية. الاستباحة الأخوية خطر على القضية بل هي أخطر من أي عدوان خارجي. فقد علّمتنا هذه التجارب أنّ التضامن يقتضي الوقوف خلف صاحب القضية لا الحلول محله.
إسرائيل تعمل على استدراج «حزب الله» إلى الحرب لتفعل مع لبنان ما فعلته مع غزة. تفويت فرصة التدمير عليها يحصّن لبنان بوحدته الوطنية، ويضاعف قدرته على دعم الشعب الفلسطيني وعلى المشاركة في الضغوط العربية والدولية لوقف الحرب وولوج باب التسوية على أساس حل عادل، ربما حل الدولتين.