IMLebanon

رسالة الى مارون الناسك

في التاسع من شباط من كلّ عام، يحتفل الموارنة بعيد شفيعهم مارون، في حين تحتفي به الكنيسة الرومانية الكاثوليكية والتقليد الأرثوذكسي البيزنطي في 14 من الشهر نفسه. أياً هي أمورُ التواريخ، والتقاليد، أغتنم المناسبة لأوجّه إليكَ، أيها الناسك، رسالةً في فحوى ما أراه من معنى الزهد والتنسّك، الآن، وهنا، لعلّ فيها ما يفيد الجماعة المارونية، والمسيحيين مطلقاً، واللبنانيين والسوريين والمسلمين والعرب وكلّ المعنيين.

سيدي الناسك،

لا أملك صورةً واضحةً عنك. ولا أسعى وراءها، خشيةَ أن يستدرجني السعيُ إلى ما يغرق فيه المؤرخون واللاهوتيون وأهل التقليد، من نقاشاتٍ ومنازعاتٍ متضاربةٍ وشتّى، ليست مدعاةَ أرقٍ لديَّ، بل أشعر شخصياً أني في غنىً عنها. في اختصارٍ جوهري، لكَ عندي في قعر الرأس، منذ الطفولة، طيف راهبٍ ناسك، يجوب البراري في نواحي الشمال السوري، مخاطباً ربّه. وهذا لمّما يدرأ كلّ شطط، ويجعل المرء موصولاً بالأصل والجوهر، بكلّ أصلٍ وجوهر. ثمّ، إنْ أنا سوى شاعرٍ، مواطنٍ علماني مدني مقيم في هذه الأرض المسيحية الأولى، أكتب بين الحين والحين في أحوال الجماعات والأمم، مستشعراً وقائع همومها وهواجسها، فمن أين لي، أنا الذي لا أملك الوضوح حيال تعقيدات الراهن الماكر، أن أملكه عن أحوال الأمس السحيق!

ثمّة الكثير من الغموض التاريخي والعقائدي يلفّ تلك المرحلة السحيقة من حياة الجماعات الوثنية والمسيحية (المتعددة والمتشابكة) في تركيا، كما في سوريا الطبيعية. لم يعد هذا الشيء مهماً إلاّ عند أهل التأريخ. فليفعل هؤلاء ما يوجبه عليهم التأريخ والتوثيق. لا استيضاح الوضوح في تلك الصورة، ولا إماطة اللثام عن الغموض، من شأنهما تغيير ما هو راسخٌ في الأذهان، وقائمٌ في الواقع. أياً كانت حقائق التاريخ، على هذا المستوى، وأياً كانت حقائق العقائد الدينية، الإيمانية واللاهوتية، يعنيني، فقط، من هذا كلّه، أن أُسلس عينيَّ وبصيرتي، على سبيل الاسترشاد، للتأمل في حياة أهل التصوّف والتيه والزهد والأدب والإنشاد من الشعراء والرهبان والنسّاك والقدّيسين والشاردين في البراري والصائمين، وقد قيل إنكَ واحدٌ جليلٌ من هؤلاء، ليكون لي، وللبنانيين عموماً، قوةٌ على الوقوف في وجه ذلّ هذه الحياة ورخصها، وشرور القائمين عليها، من أهل الدين والدنيا.

قيل لي إنكَ أكثر من واحد. وثمة مَن يقول إن مَن يحمل اسمكَ انوجد في أكثر من وقت. وإن مسألتكَ ملتبسة للغاية، تاريخياً ولاهوتياً. وكذا حال تاريخ الكنائسَ. هذا ليس مهماً عندي البتة. أكتفي منكَ بما يقول به التقليد، وسواه، صائباً أكان أم على شطط. وها أنا أخاطبكَ، بما أنتَ فيه، ناسكاً زاهداً قدّيساً، وأخاطبكَ خصوصاً بما آل إليه اسمكَ على أيدي مريديكَ، وحاملي رايتكَ، في هذه الأزمنة الكئيبة.

أصرخ من أعماقي: يا لثقل النير الذي تحمله على كتفيكَ، من جرّاء هؤلاء!

إذا كنتَ حقاً، ذلك الناسك المتزهد، المنشد، المصلّي، في ليل الشمال السوري السحيق، في نواحي قورش وأنطاكيا وشمال حلب، الذي شهد لكَ أسقف القورشية تيودوريطس في كتابه “تاريخ أصفياء الله”، الموضوع في نحو العام 423، وإذا كنتَ أنتَ هو نفسكَ الذي شهد لكَ بطريرك القسطنطينية يوحنا الذهبي الفم في رسالته إليكَ، من منفاه في القوقاز في نحو العام 404 – 405، واصفاً إياكَ بـ”الكاهن والناسك”، على ما يومئ إليه العدد السادس والثلاثون من رسائله المنشورة في مجموعة “الآباء اليونان”، فرجائي أن تكون روحكَ الهائمة تنصت تماماً إليَّ، لتدرك ما هي عليه أحوال جماعتكَ التاريخية، البائسة طوعاً وقسراً.

لقد سُمّوا موارنةً، تيمّناً بكَ. فنعمَ التسمية. كانوا في ما مضى زهّاداً ونسّاكاً، يطلبون الحرية والكرامة في الله، وفي البراري والصحارى، وفي السحيق من الأودية، وفي الوعر من الجبال. بعضهم القليل القليل، لا يزال، حتى في هذه الأزمنة الصعبة، يراعي الأصل في الزهد، والجوهر في التنسّك، مكيِّفاً التقليد بما يتلاءم ومقتضيات العيش الحديث في الراهن، قويّ الروح والشكيمة، صلب العزيمة، جاعلاً من ترانيم تصوّفكَ موسيقى يسترشد بها في تدبير الإيقاع الذي يتناسب وإدارة الشأن العام، وتذليل مشقّاته. البعض هذا، إنْ هو إلاّ قلةٌ قليلة من الجماعة المارونية، أيها الناسك، أما كثرتها الكاثرة، فانصرفت عن سيرتكَ ومعناكَ، وأخذتْها الصغائرُ والضغائنُ، وفنونُها، وشغلتْها ما ينشغل به الصيارفة والمراؤون والفرّيسيون والسرّاقُ والمنتهزون وأهل الفساد مطلقاً، حتى ضجّت الأرجاء بها ضجيجاً لم يعد يليق بالاسم الذي أخذتْه عنكَ، وبالأوصاف التي كنتَ توصف بها.

لقد كنتَ زاهداً متنسكاً شاعراً بالله والكرامة، أما الجماعة هذه، فقليلها القليل النادر فحسب، لا يزال على الصراط. وإذ أسمّي الزهد والنسك، فأنا أقصد في الضرورة، لا الاستقالة من العيش في معتركات الدول والمدن والحداثة والمجتمع، للذهاب إلى الفيافي واللوذ بالجبال والأودية، بل حصراً وبالتحديد، التمسك بأخلاقيات الزهد والنسك في قلب الحياة المدنية الراهنة.

هذه الجماعة التي قامت على النسك، فلتسأل نفسها الآن أيّ نسكٍ تمارسه في مقاربة شؤون ذاتيتها وكينونتها، وشؤون الدولة والقيم والمعايير والقوانين والحرية والكرامة والسياسة والمجتمع؟

لا تعميم في القول. ولكن! في الدين، لم تعد هذه الجماعة أهل دين. أنظرْ، أيها الناسك، إلى أحبارها وأنفارها، ترَ أين هم من وقاركَ المهيب، وتصوّفكَ الجليل. في السياسة، جعلت من السياسة ماخوراً للانتهاز والمطامع ولتعهير المعايير والقيم التي ينبغي أن تُدار بها شؤون السياسة. في المجتمع، صارت حياة الناس على أيديها ما يتناهى إليكَ من المعاصي، وتردّده الفيافي والأودية، بل الشاهقات من العواصم والمدن، والمتاهات من البحار والقفار.

أعتقد أنكَ تدرك في قرارتكَ، أيها الناسك، ما يردّده الكثيرون هنا، بمرارة، سرّاً وعلناً، أن كنيستكَ صارت اليوم – ولا تعميم – كنيسة هذه الفانية الأرض، لا كنيسة السماء. وأن جماعتكَ الدينية هي جماعة المباذل، لا جماعة النسّاك. هل تريدني أن أصف لكَ “مكارم” الجماعة الحاملة اسمكَ، المتنطحة لتدبير شؤون الناس، وسوسهم، والسير بهم في معارج الرفق والعقل والروح والكرامة والقيم والرقيّ والترفع؟! هاك بعض هذه “المكارم”: اغتيال الرئاسة، الاقتتال، التنازع، الضغن، الكره، الحقد، الثأر، القتل، النهب، السرقة، الانتهاز، الطعن في الصدر والظهر، الوصولية، الكذب، المكر، الأنانية، الغدر، الذلّ، التذلل، رذل الفقير والمحتاج، عبادة المال، طمر الرأس في الرمال، الانتفاخ، التعالي، انعدام الثقافة… الخ.

ربما سبقتْني إليكَ شكاوى كثيرة، تنال مني ومما أرمي إليه. لا بأس. رجائي الحارّ، أن تستدعي ثلاثةً من أبناء جماعتكَ المارونية، أحدهم علمانيٌّ كبير وكاتبٌ عظيم هو جبران خليل جبران، والإثنان الباقيان من ملافنة التقليد الماروني، ميشال الحايك ويواكيم مبارك. ثلاثتهم، كلٌّ على حدة، ومعاً، يعطونكَ الجواب الرشيد، وقد أصبحوا جميعهم في دنيا الحقّ. ورجائي أن تستدعي مَن بقي من نسّاككَ، ومن فقراء شعبكَ، ليخبروكَ عن توحّش المترفين من أبناء الجماعة المارونية، وكيف كلّما نظروا في عيون هؤلاء المترفين، لا يجدون ماءً يغرورق في عيونهم الصمّاء!

لقد أُعطِيت هذه الجماعة المارونية أن تكون أمينةً على لبنان وجبله. أنظرْ، أيها الناسك، ماذا فعلت هذه الجماعة بالأمانة التي لا توازيها أمانة؟ لقد أُعطيت بلداً، هو بلد اللبان والبخور، فجعلته مرحاضاً عاماً، بالتكافل والتعاضد مع السنّة والشيعة خصوصاً، كما مع الجماعات الوطنية اللبنانية الأخرى كلها، بلا استثناء.

أعرف أنكَ تعرف أن هذه الجماعات لا تقلّ خزياً وعاراً عن الجماعة المارونية، إذ هي لا تزال تقدّم البرهان تلو البرهان على هذين الخزي والعار. لكن هذا العذر الذي يُرفَع كتبرير، يكشف هول الفضيحة المارونية، بدل أن يخفّف وطأته. فإذا ليس لسببٍ، فلسبب أنها كانت مؤتمنة على الوديعة المطلقة. فأيّ تبريرٍ من شأنه أن يخفف الوزر والوطأة والجريمة!

هذه الأمانة ليست أمانةً سياسية ولا جغرافية فحسب. إنها أمانة الكرامة والأرض والحرية.

أزعم في هذا كلّه، أني مدركٌ، إلى حدّ، مأساة أن ينوجد لبنان، وأن يستمر، في قلب هذه الجغرافيا السياسية الإقليمية، التي جعلتها السلطات والاستبدادات العربية والظلاميات الدينية، أرضاً للخراب والفجيعة.

سيدي الناسك،

أنتَ في النظر الإيماني العام، قدّيسٌ، ولكَ شفاعةٌ عند ربّ الأرباب، أسألكَ أن ترسل إلى جماعتكَ المارونية آيةً. أعتقد أنها تحتاج إلى آية. ليس لأنها في بأسٍ شديد فحسب، بل لأنها لم تعد تدرك معنى أنها تحمل الأمانة.

يؤلمني أن أستحضر روحكَ الهائمة في هواء أقداسها، في مناسبة عيدكَ الجليل، لأنغّص رحابتها الملأى بعطور الروح القدس، ومواهب البِرّ. لكني لا أجد سبيلاً آخر، للمخاطبة.

فارسلْ إلى جماعتكَ المارونية، من مواهب زهدكَ والنسك، آيةً عظيمة، لاسترجاع الدليل إلى رحابات الترفع عن الصغائر، ورحابات الحرية. والسلام!

* * *

قبل أسبوعين، كتبتُ مقالاً في لزوم اعتبار لبنان كرسيّاً للاعتراف. أنطلق من هذه المناسبة المارونية الكريمة، لأدعو الجماعات اللبنانية كلها، من دون استثناء، لمباشرة التقدم من كرسي الاعتراف هذا، لإعلان الذنوب المرتكَبة حيال الوطن، وللبحث في كيفيات التكفير عنها. إذا ليس من أجل شيء، فمن أجل أن تبقى هذه الأرض السمحاء مكاناً للكرامة والتنوع والحرية.