من باريس العاصمة التي ليست أقل اهتماماً من العواصم الكبيرة الغربية بالشأن التركي خَطَرَتْ لي هذه الرسالةُ إلى الرئيس رجب طيِّب أردوغان وعنه لا سيما في ما يحفّزه التواجد في باريس من مقارنات “بديهية” في التعامل مع الصحافة والإعلام، التعامل الذي يشكّل تحديدا لموقع أي بلد في “جغرافيا” الحداثة
الخيار الذي يواجهه الرئيس التركي رجب طيِّب أردوغان هو بين اتجاهين لفترة حكمه الجديدة:
إما أن يواصل الأولوية التي باتت تستحكم به وهي السيطرة الكاملة على مقاليد الدولة التركية وإما أن يعطي الأولوية في سياق تغيير تركيا لقوة النموذج التركي أي لديموقراطيّته.
نجح أردوغان، ولو لفترة غير قصيرة، في تأكيد الأولوية الأولى ولكن على حساب قوة النموذج الذي أزعم أن العالم المسلم كان ولا يزال لا يملك غيره في الحقبة المعاصرة، من حيث ثنائيّة هذا النموذج التحديثية الديموقراطية والاقتصادية.
لا قوة لهذا النموذج من دون ترافد عُنْصُرَيْ ثنائيّته. أعني بقوة النموذج قدرته على إثبات إمكان علاقة بنّاءة وطبيعيّة بين الإسلام والحداثة. هذا ما يُفتَرَض أن يشدّ النخب العربية والمسلمة إلى التجربة التركية.
لقد ذهب الرئيس أردوغان في الأعوام القليلة الأخيرة بعيداً جداً في ممارسة تسلّط غير مقبول في عدد من المجالات لا يمكن لمتطلِّعٍ إلى تركيا ديموقراطية أن يتجاهلها. ضغطٌ على وسائل الإعلام متعدِّدُ المستويات بينها ما لم يحدث سابقا في بلدان ديكتاتورية الحكم وهو تغيير عبر “القانون” لملكية وسائل إعلام معارضة فضلا عن سجن أعداد من الصحافيين والمثقفين وقطع موارد صحف من الدولة وتوزيعها على صحف وقنوات تلفزيونية موالية. قبل هذا بدأ بقمع حركات شبابية في قلب المدن الكبرى ناهيك عن حملات “التطهير” الواضحة في الشرطة والقضاء لكل من يعتبرهم غير موالين ومنها إقصاء قضاة تجرّأوا على تحريك ملفات الفساد ووو…
فخامة الرئيس،
هذه الممارسات ليست هوامش في تقييم التجربة السياسية في بلد يطمح، وكان يطمح معه العديد من النخب في العالم المسلم، إلى إرساء تجربة ناجحة بين الإسلام والحداثة. كانت التجربة التحديثية التركية بادئة منذ عقود طويلة ولكن السيطرة العسكرية على الحياة السياسية كانت تفسدها. ولهذا وقفت النخب التركية غير الإسلامية وغير التركية معك في مواجهة هذه الوصاية. لكن النخب الشبابية والثقافية أصبحت ضدك عندما بدا أنك تريد استبدال الوصاية العسكرية بوصاية بوليسية فردية.
فخامة الرئيس،
لا يكفي الاعتماد على القوة الشعبية وحدها لتحقيق ما تسمّيه “تركيا الجديدة” خصوصا أنها في أفضل حالاتها لا تتجاوز نصف المجتمع التركي عدديا بينما النصف الآخر ليس معك حتى لو أن النظام الانتخابي يسمح للـ49 بالماية التي حصل حزبك عليها بأكثرية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة كاملة من حزبك.
النموذج لا تبنيه كتلة شعبية وحدها يسمح لها تماسكها بإيصال حزب واحد إلى السلطة، وهي باتت عمليا في الأرياف والمدن الريفية بنواتها الضاربة وليس في المدن الكبرى. النموذج يبنيه موقف النخب وديناميكيّتها وهذا الآن مفقود في المجال السياسي. وإلا تحولت الكتلة الشعبية إلى عصبية شعبوية وأحيانا فاشية في قمع المعارضين.
لهذا النظرة الغربية، الأوروبية والأميركية، الآن إلى نظامك السياسي نظرة سلبية ولهذا نحن في المشرق العربي المتصدّع (باستثناء مصر التي يقاتل جيشها وشعبها ونخبها للحفاظ على تماسكها كمجتمع ودولة) يقلقنا تراجعُ النموذج التركي وانحرافه في اتجاه تسلطي عانينا ونعاني منه الكثير في بلداننا.
هل فات الأوان لنطالبك بإعادة إعطاء الأولوية لقوة النموذج على قوتك كحاكم؟
أرجو لا.
ثم من قال إن قوة الحاكم تحددها قوة سلطته فقط وليس قوة المصالحة الوطنية والحريات واعتدال السياسة الخارجية، فضلا طبعا عن النجاح أو التماسك الاقتصادي؟ وهي كلها كما ثبت في تجربة السنوات الأخيرة مترابطة في تركيا.
فخامة الرئيس،
تبقى لي ملاحظة وهي أن الاعتماد على مقولة “فرادة النموذج الحضاري” أو “الديموقراطية على النمط المحلّي لا الغربي” لتبرير ممارسات سلطوية تحوّل في كل البلدان التي رُفعت فيها هذه المقولة إلى غطاء لحكم غير ديموقراطي. فضلا عن أنها مقولة باتت مستهلكة في الثقافة السياسية المعاصرة.
الآن هي فرصتك لتعزِّز النموذج لا مجرد قوة حكمك. خصوصا أنك تعرف أكثر من غيرك حجم الأخطار الاستراتيجية التي تواجه تركيا.