أصدقائي وصديقاتي، كثر يقولون لكم اليوم: تناضلون عبثاً. أو: أنتم مخرّبون ورعّاع. أو: مطالبكم مستحيلة. كثر يحاولون إحباطكم، أو “تفخيخكم”، أو التركيز حصراً على المشاغبين والمندسّين والمدفوع لهم (عليكم بالحذر منهم). لكن بالنسبة إلي، أنتم أولا وخصوصاً، محاربون. محاربون بلا بنادق، ولا سيوف، ولا قاذفات صواريخ، ولا دبابات. أي محاربون “حقيقيون”.
يظهر تاريخ الحضارات البشريّة أنّ الإنسان محارب منذ الأزل، لكن المحارب الحقيقي ليس ذاك الذي خاض معارك لأسباب دينيّة، سياسيّة، وعقائديّة، مستخدماً أسلحة تقتل وتشوّه وتبيد، بل هو الشجاع الذي حارب ضد الخوف، وتسلّق الجبال؛ هو النيّر الذي حارب ضد الجهل، ونشر المعرفة؛ هو المثابر الذي حارب ضد الإعاقة، وحقّق الانجازات؛ هو النبيل الذي حارب ضد العنصريّة، وأطلق الشرارة الأولى لحملة الحقوق المدنية…
هذه هي حروب التاريخ الحقّة: الحروب ضدّ القمع والظلم والقيود، وضدّ التمييز والفقر والعوز. مَن يظن أنّ غاندي ومانديلا وروزا باركس ونظراءهم لا يستحقّون أن يُسمَّوا محارِبين، وأنّ الاسكندر المقدوني ويوليوس قيصر ونابوليون وأشباههم وحدهم يستحقّون هذا اللقب، عليه بإعادة النظر في تعريفه للحرب استنادًا إلى الخير الذي تجلبه إلى البشريّة، بدل الأرباح (الماديّة والسياسيّة والجغرافية) التي درّتها على مُطلقيها وفصائله.
أتعلمون متى بدأ الإنسان يحارب؟ منذ 3.8 مليارات سنة. صحيح أنه لم يكن هناك بشرٌ، إنّما آنذاك انوجدت الحياة على هذه الأرض. صدِّقوني، تطلّب الأمر حرباً ضروساً لتحدث هذه الحياة، وإلاّ كيف كنّا لننتقل من عداد المواد الكيميائيّة إلى مصاف الخلايا الحيّة؟ أيضاً، تطلّب وجود كلّ واحدٍ منّا حرباً: على النطفة التي تصنعنا أن تكون أقوى وأسرع من مئة مليون نطفة أخرى لتتمكّن من بلوغ بويضة الأنثى. عليها ان تسبح عكس التيّار قبل أن تبلغ مرادها عبر عنق الرحم صعودًا إلى قناة فالوب. نحن لا نولد من الخمول والإهمال والركود، بل جينة الكفاح هي أكثر ما يميّزنا كمخلوقات بشرية. تالياً، كلّ مرّة نقول لأنفسنا “لا أستطيع”، فلنغمض عيوننا ولنتذكّر ما تطلّبه الأمر لننوجد. لنتذكّر رعب تلك النطفة الصغيرة، لنتذكّر الضغوط المُهلِكة الممارَسة عليها، لنتذكر المنافسة الضارية التي كانت تواجهها. لنتذكّر مثابرة تلك النطفة في اجتياز هذا كلّه من دون تردّد، من دون أن تشيح بنظرها عن هدفها. لنتذكّر انتصارها الذي صنعنا.
لنفعل ذلك فحسب، يا أصدقائي وصديقاتي، وسيبدو كلّ تحدّ نواجهه اليوم، مهما كان صعباً، كمثل “شربة ماء”.